مئة عام وعام على الحرب العالمية الأولى
بقلم ميرنا زخريًّا*
ها قد شارف العام على نهايته، وها قد مرّ مئة عام وعام مُنذ نُشوب الحرب العالمية الأولى في سنة 1914، وهي حربٌ دارت بين الدول الأوروبية على مدى أكثر من أربع سنوات وإنتهت في مثل هذا الشهر، وقد كان لها بالغ الأثر في الدول العربية، ذلك أن مُعظمها كان مُحتلاً من تلك الدول. ففي القرن الماضي كانت بريطانيا مُهيمنة على العالم، أما في القرن الحالي فقد أصبحت الولايات المتحدة الأميركية هي القوّة العالمية الأكبر. وما بين هذه وتلك، ما بين طموحات الغرب في الماضي وإخفاقاته في الحاضر، ما الذي تغيّر في المحيط العربي؟ يُخطئ مَن يُردّد بأن التاريخ يُعيد نفسه، نحنُ مَن يكتب التاريخ بأفعالنا: فإنْ عدَّلنا أفعالنا، كتبنا تاريخاً مُشرِقاً مُشعّاً؛ وإنْ أبقينا على أعمالنا، أعدنا التاريخ الجريح نفسه.
برزت خلال قرنٍ كاملٍ من الزمن، مستجدات ودلالات وتطورات عدّة، لعل أبرزها التالي:
1. النقلة التكنولوجية: إنها العنوان الأبرز من دون مُنازع، ممّا حفز الآثار على تطوّر الآلات وتواصل الأفراد وتغطية الأحداث؛
2. المعاهدات السلمية: تناقص عدد الدول التي تدعو إلى الحرب، فيما منذ قرنٍ لم يكن أحد ليوقف هجوماً من دولةٍ قويّةٍ؛
3. دولة “داعش”: كان القتل جارٍ وقُدرّت حينذاك الخسائر البشرية بتسعة ملايين قتيل، وها هُم عرب اليوم يقتل واحدهم الآخر؛
4. جامعة الدول العربية: الداعية إلى وِحدة الدول العربية تأسّست سنة 1945، أي قبيل سبعة أشهرٍ من منظمة الأمم المتحدة؛
5. إستهداف المدنيين: سابقاً كانت الحروب تُخاض بين جيشين مُتنازعين في ساحة محدّدة للقتال، أما حالياً فكل المدن مُباحة؛
6. الأسلحة الذكية: بدل الأساطيل ذات القدرات والمعدات التقليدية، وصلنا إلى إمكانية إستعمال طائرةٍ مُدمرةٍ من دون طيارٍ؛
7. القضية الفلسطينية: التحدّي الأكبر كان إنشقاق العرب حول نشأة إسرائيل، ما بين جسمٍ عدوٍ معزولٍ وجارٍ موجودٍ مقبولٍ.
ألحرب هي نزاع مُسلح بين دولتين أو أكثر مِن الكيانات غير المُنسجمة، حيث الهدف منها هو إعادة تنظيم الخارطة الجيو-سياسية (الروابط السببية بين الجغرافيا والسياسة). لكنْ، إذا كان هذا التعريف صحيحاً، فما سبب إقتناع الكثيرين بعدم إمكانية إعادة إندلاعها؟ قد تتغيّر وتتبدّل وتتقدّم الوسائل القتالية، إنما تبقى الحرب حرباً، تبقى قتلاً ودماراً، تبقى نُزوحاً ونيراناً، تماماً مثلما هو المشهد الآن على إمتداد الدول العربية.
منذ مئة عام وعام، كان المناخ السائد بين الدول الأوروبية (مُشابهاً للمناخ السائد حالياً بين الدول العربية)، إذ كان المنطق يؤكد إستحالة إندلاع حرب في ما بينها، ذلك أن: طوائفها وإقتصاداتها وأمنها وعائلاتها وثقافاتها وعاداتها هي مُتداخلة ببعضها البعض ومُتكاملة لبعضها البعض؛ بالإضافة إلى أن العولمة كانت حينها سيّدة الموقف، فقد طال التقدّم صناعة السفن والقطارات والهواتف وغيرها. وعلى الرغم من كل ذلك، هبّت حرباً عالميةً غيّرت الخريطة السياسية.
ما هي أوجُه التشابه بين الأمس واليوم؟
1. كانت بريطانيا قوّة عظمى لكنْ عاجزة عن فرض الأمن، واليوم ها هي أميركا قوّة عظمى لكنْ عاجزة عن فرض الأمن؛
2. كانت فرنسا دولة ذات تاريخٍ وتأريخ إنما خائرة القوّة، واليوم ها هي اليابان دولة ذات تاريخٍ وتأريخ إنما خائرة القوّة؛
3. كانت ألمانيا حاضرة بإمتياز إقتصادياً كما عسكرياً، أما في الحاضر فالصّين هي الحاضرة بإمتياز إقتصادياً كما عسكرياً.
ما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى هنا؟
1. وَفرة النفط وحاجة النفط وقيمة النفط: يُقال أن الثروات بإمكانها أن تكون لعنة، فهل لعنة البترول جلبت الدبّ إلى الكرْم؛
2. صحوَة موسكو: بعدما أخذ المُنافِس الأبرز لأميركا يتعافي، كان لا بُد من إمتداد السيطرة، بهدف الحدّ من نفوذ روسيا؛
3. مُحاصرة الصّين: بكين هي المُزاحم المقبل، والصّين على يقين بأن تفتيت المنطقة يُساهم في مُحاصرتها، لذلك عارضته.
ما هي العوامل التي ساعدت أميركا؟
1. سُهولة السيطرة على بعض الدول العربية أرضاً وشعباً، بُغية تفتيتها وتقسيمها أقله شعبويّاً بحسب الشرق الأوسط الجديد؛
2. صُعود جماعة “الأخوان المسلمين” وهي جماعات إسلامية مُتطرفة صنّفها البعض بأنها إرهابية، وبالتالي بالإمكان شرائها وإشغالها؛
3. خلق وتعزيز مناخ طائفي أبطالهُ من دون منازع هُما المحور السنّي بمُواجهة الهلال الشيعي، مّما أعطى الذريعة للتدخّل.
ما هي الثوابت التي لا تُعجب أميركا؟
1. التقسيمات التي رُسمت للمنطقة بعد إتفاقية سايكس بيكو سنة 1916 لمْ تأخذ بعين الإعتبار الإختلافات والخلافات الطائفية؛
2. الطبقة السياسية العربية الحاكمة، منها مَن كان مُتعاونا ومنها مَن كان مُعادياً، وتغييرها سيُحدث تغييراً مُرتقباً بالمسلّمات؛
3. فلسطين مُحتلة منذ العام 1948، قريباً سبعون سنةً ستكون قد ولّت وما زالت بعض الدول لم تتطبّع ولم توقّع على التفاهم.
مع نهاية الحرب الأولى، لم يعُد من وُجود لا للدولة العثمانية ولا للإمبراطوريات الروسيّة والنمسويّة والمجريّة؛ فقد تفككت دول وولّدت دول؛ وأعيد رسم خارطةً جديدةً مع تقسيماتٍ جديدةٍ، بهدفِ منعِ تكرارِ المآسي والمعاصي. لكنْ، وقعت الحرب الثانية، فهلْ من حرب ثالثة؟
هل من ثالثة تُعيد رسم خارطة الدول العربية؟ سوألٌ نجدهُ اليوم في كتُب الجغرافيا، أمّا الجواب فنجدهُ غداً في كتُب التاريخ.
• باحثة في علم الإجتماع السياسي