لبنان: دَعواتٌ مَفتوحة

بتشجيع تدخّل القوى الخارجية لكي يكون لها نصيبٌ في لبنان، قد يخلق خصوم “حزب الله” مساحات لاحتواء إيران.

آية الله علي خامنئي والسيد حسن نصرالله: وجود الثاني على رأس “حزب الله” عزّز وجود وهيمنة إيران من دون وجود مادي

مايكل يونغ*

بالنسبة إلى بلدٍ مُقَسَّم مثل لبنان، كان التدخّل الأجنبي في شؤونه دائماً لعنة. لقد تلاعبت الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية بالانقسامات الدائمة في المجتمع لتعزيز مصالحها، في حين دفع اللبنانيون ثمناً باهظاً لذلك. ولكن، هل من الممكن الاستفادة والإفادة من التدخّلات الخارجية؟

المُجتمعات المُنقَسِمة على أسُسٍ طائفية يمكن أن تكون مُتقَلِّبة. في الحالة اللبنانية، الطوائف كلها، بشكلٍ أو بآخر، أقلّيات، ولكلٍّ منها مخاوفها الوجودية. إذا اكتسبت الطوائف الأخرى الكثير من القوّة، فإن رد الفعل الغريزي للطائفة هو توقّع إضعافها والقضاء عليها. في كثيرٍ من الأحيان يمكن أن يؤدي هذا إلى الحرب، حيث أن أقلية خائفة تُفرّط عادة في تفسير تصرّفات الخصوم، وتستعد للقتال من أجل ما تعتبره بقاءها ووجودها. هذا ما حدث في الفترة التي سبقت الحرب الأهلية في العام 1975، عندما بدأت الأحزاب السياسية المارونية في التسلّح. لقد نظرت إلى القوّة المتزايدة للجماعات العسكرية الفلسطينية كعاملٍ حاسم لصالح المُجتمع السنّي، معتقدةً أن هذا الوضع يُهدد مكانها ومكانتها في الدولة، وفي النهاية وجودها.

تميل الأنظمة الطائفية إلى معاقبة الطوائف التي تُحاول فرض إرادتها على الآخرين. عندما غادرت القوات الفلسطينية المسلحة لبنان في العام 1982 ثم بشكل قاطع في العام 1983، فَقَدَ أهل السنة دعمهم العسكري الرئيس وانخفض نفوذهم لسنوات. من جهتهم اعتقد الموارنة أن بإمكانهم فرض سيادتهم وهيمنتهم من خلال الغزو الإسرائيلي في العام 1982، لكن ذلك قوّضه إحجام إسرائيل عن التورّط في العداوات اللبنانية، وعداء الطوائف الأخرى لطموحات الطائفة المارونية، والمساعدات العسكرية التي قدّمتها دول أجنبية لهؤلاء المعارضين. وكانت النتيجة خسارة كبيرة للسلطة المارونية بمجرد انتهاء الحرب.

اليوم، يسود وضعٌ أكثر تعقيداً مع المجتمع الشيعي، أو ذلك الجزء منه الذي يؤيد “حزب الله”. الحزب مُدجّج بالسلاح، لكن راعيه الخارجي، إيران، ليس حاضراً مادياً وميدانياً في لبنان، لذا لا يوجد خيارٌ حقيقي لإجباره على الرحيل لإضعاف “حزب الله”. على العكس من ذلك، رسّخ الإيرانيون مشروعهم الإقليمي على حطام الخلاف العربي – في لبنان والعراق وسوريا واليمن – وليس في عمليات انتشار عسكرية مفتوحة. وقد دفع هذا الكثير من الناس إلى التساؤل عمّا يمكن فعله لوضع حدٍّ لهيمنة “حزب الله”، عدا عن بدء صراع أهلي من شأنه تدمير البلاد وعدم حلِّ أي شيء على الأرجح. الجواب البسيط هو أنه لا يمكن فعل أي شيء في الوقت الحالي.

مع ذلك، هذا لا يعني أنه لا توجد طريقة لوضع قيود وحدٍّ على هامش مناورة الحزب. وهنا قد يكون من المفيد للبنانيين المعارضين ل”حزب الله” البناء والعمل على تدخّلٍ أجنبي أوسع، السمّ الذي ابتُلِيَت به بلادهم منذ الاستقلال. إذا أصبح لبنان مرة أخرى ساحة مفتوحة للمنافسة الإقليمية والدولية، فقد يكون هناك مجالٌ واسعٌ لوضع حدود لما تفعله طهران وحلفاؤها وتحويل البلاد إلى مكانٍ للتفاوض، وتغيير وضعها الحالي كتابعٍ حصري لإيران.

من نواحٍ عديدة، شهدنا بداية هذا الأمر خلال العام الماضي، حيث أثار الانهيار الاقتصادي للبنان وانفجار مرفإ بيروت مخاوف خارجية. وقد سمح الانفجار للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدخول المشهد اللبناني بحماسة. تم تحييد مبادرته لاحقاً، لكنها أيضاً حوّلت فرنسا إلى لاعبٍ معترف به في البلاد. كان الفرنسيون محوريين في عملية تشكيل الحكومة، وسيأخذون زمام المبادرة بلا شك في أيّ جهد أوروبي لمساعدة لبنان على التعافي الاقتصادي.

من ناحية أخرى، فتحت أزمة الكهرباء الباب أمام مبادرة مصرية وأردنية أيضاً، بدعمٍ من الولايات المتحدة، لتزويد لبنان بالطاقة والتخفيف من وضعه الاقتصادي الكارثي. الاعتقاد السائد بين هذه الدول هو أن “حزب الله” وإيران سيستفيدان من الانهيار الاجتماعي والاقتصادي الكامل. وقد أثبت ذلك استعداد اللبنانيين لقبول الوقود الإيراني الرخيص في الأشهر الأخيرة.

وبالمثل، فإن الجهود التي يبذلها بعض الدول العربية – الإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن- لبدء التطبيع مع نظام الأسد في سوريا، يُنظَر إليها جزئياً على أنها وسيلة لدعم الدولة في ما يتعلق بإيران. قد يكون لذلك تداعيات واضحة على القوة الإيرانية في لبنان إذا حاول السوريون إحياء نفوذهم وشبكاتهم في البلاد، هذه المرة بدعمٍ من روسيا.

في المقابل، لم يؤدّ قرار بعض دول الخليج بقطع علاقاتها مع لبنان وعزله إلى شيء. كان القرار الأخير لاستهداف البلاد في أعقاب تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي – التعليقات التي أدلى بها قبل أن يصبح وزيراً – مثالاً على ذلك. أثار بيان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في وقت سابق هذا الأسبوع أسئلة أكثر من إجابات. وأعلن أن الأمر متروك للطبقة السياسية لـ”تحرير لبنان من “حزب الله” وإيران”. في غضون ذلك، لم يرَ السعوديون أي دافع للتواصل مع الحكومة اللبنانية “في الوقت الحالي”.

لا شك أن السعوديين ودول الخليج الأخرى سئموا بشكل شرعي من الطبقة السياسية اللبنانية، نظراً إلى أن العديد من السياسيين قد استغلّوا سخاء السعودية والخليج مقابل عائدٍ ضئيل. لكن كيف يقترح الأمير فيصل أن يُحرّر لبنان نفسه من دون حرب؟ إنها دولة ترفض فيها غالبية واضحة من سكّانها الأجندة الإيرانية. ولكن عندما تفشل دول الخليج في تحقيق أقصى استفادة وإفادة من ذلك، فإن عزلها للبنان لا يؤدّي إلّا إلى تسهيل جهود” حزب الله” لإملاء اتجاه البلاد، فكيف يمكن اعتبار ذلك سياسة ناجحة؟ عادة، في السياسة يكافح المرء من أجل السلطة والنفوذ، لا يحرد ولا يعزل نفسه.

لا ينبغي لأحدٍ أن يتوقّع نتائج واضحة أو سريعة من الدول الأجنبية التي تسعى إلى تحقيق نصيب وحصة في لبنان. سيقاتل “حزب الله” وإيران بكل قوتهما في كل شبر من التضاريس -شاهد جهود وزير الخارجية الإيراني الأخيرة لنسف خطة فرنسية لإعادة بناء مرفإ بيروت، من خلال عرض أن تفعل إيران الشيء نفسه وأكثر. سيتطلب التغيير الصبر من قبل الدول لاستخدام مزاياها، مع قبول أن التوقعات الصفرية ستفشل: إن القضاء على نفوذ إيران في لبنان لن يحدث، نظراً إلى المجتمع الشيعي الكبير هناك. مع مرور الوقت، قد يظهر إجماع إقليمي حول البلاد لتحقيق الاستقرار، على غرار التفاهم السوري-السعودي بشأن اتفاق الطائف.

قد يتأوّه ويُعاني اللبنانيون من مثل هذه النتيجة الحارة، كما هو المفروض. لسوء الحظ، لم تُظهر الدولة أي وحدة ضرورية لتجنّب مثل هذه الحلول. ما لم يتم توحيد الشعب، وحتى يتم توحيده، سيبقى لبنان كرة قدم في مباريات الآخرين. لذا يُفضَّل في الوقت الحالي استغلال هذا النقص لمنع الدولة من أن تكون مجرّد أداة إيرانية، الأمر الذي لن يؤدي إلّا إلى تعزيز العزل العربي المفروض عليها، بل ويجلب الدمار الشامل في حالة الحرب مع إسرائيل.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى