هل صحيح “يَحقُّ للشاعر ما لا يَحقُّ لغيره”؟؟؟
هنري زغيب*
تسنَّى لي مرَّتين، الأُسبُوع الماضي في مناسبتَين جامعيَّتَين، أَن أَستمع إِلى كتابات شبابٍ قَرَؤُوها في احتفالٍ أَدبي، معتبرينها من الشعر، فيما هي نصوصٌ من النثْر المتوسط أَو أَدنى.
رُحتُ في كلتا الجامعتَين أَشرحُ للطلَّاب ضلالَ أَن يُسمُّوا شِعرًا أَيَّ نصٍّ يكتبونه بشكل غير أُفقيٍّ مسترسلٍ من أَول السطر إِلى آخره، بل عموديٍّ بالرجوع إِلى السطر بعد كتلة كلمات، كي يشبه شكل الشعر الكلاسيكي أَو قصيدة التفعيلة.
وبسؤَاليَ إِياهم إِنْ كانوا درَسوا العروض أَحوالًا وجوازاتٍ وشروطًا، أَجابوا جميعًا بالنفي. وهذا واقعًا ما يَسري على معظم مَن يكتبون هذا النثر وينسبونه إِلى إِقليم الشعر، وهُم يجهلون نُظُمَ الشعر وأُصولَه.
أُكرِّر ما أَكتُبُهُ أَو أَقولُه دائمًا إِن التجديد لا يكون إِلَّا من داخل الأُصول، وليس بالخروج عليها من دون قاعدة ولا نُظُم. وهذا ما يحصل مع الأَكثرية المطْلَقة من “مرتكبي” هذه الموضة الكتابية: يجهلون القواعد فيخرُجون عليها، ويكتبون نصوصًا مرسَلَة لا ضوابط فيها ولا معايير، يسمونها شعرًا وهي لا تستحقُّ أَن تكون حتى في سَيِّئ النثْر.
في حديث لي مع رسام لبناني انتقل من الكلاسيكي إِلى التجريدي في لوحاته، قال لي إِنه لم يخرج على الأُصول بل هو في التجريب بلوغًا إِلى لغة تشكيليةٍ خاصةٍ به. وإِنه حقًّا منسجم مع ذاته، لأَنه رسام كلاسيكي ناجح، درَس ويدرِّس في الجامعة أُصول الرسم التي يمتلكها عميقًا، ومنها خرج إِلى خط له ذي مَنَاحٍ تشكيلية تجريبية. وأَردف أَن مَن يُمسك بالريشة والأَلوان ويروح يهذي بها على القماشة البيضاء من دون قاعدة، بحجة أَن هذا رسم حديث أَو معاصر، يُنتج هذيانًا لا يقود إِلى مكان.
هذا الحديث مع الفنان التشكيلي، يصحُّ تمامًا على مرتكبي النثر باسم الشعر: يجهلون قواعد الشعر فيستسهلون الكتابة النثرية ويدَّعونها شعرًا. يسجِّعون بعض نهايات الأَسطر معتبرينَها قوافيَ، وهي ليست سوى سجَع بارد بليد. ويعتبرون عودتهم إِلى السطر كلَّ حفنة كلمات أَنها صورة القصيدة في شكلها العمودي.
كانت الإِجابة شبهُ العامة لدى أُولئك المشاركين في الجامعتين أَنهم يتشبَّهون بشعراء خرجوا على الوزن وكتبوا هذا الشكل المسمَّى “قصيدة النثر” أَو “الشعر المنثور” أَو “النثر الشعريّ” أَو “الشعر الحديث”. أَوضحتُ لهم أَنَّهم يتشبَّهون بشعراء متمرِّسين بالعروض وأَحواله ويمتلكون الأُصول الكلاسيكية، لكنهم آثروا أَن يخرجوا إِلى تجاربهم الشعرية. عندها أَجابني أَحد الطلَّاب بصدق عفوي: “الآن فهمتُ أَنني قلَّدتُ خطأً أَحدَ الشعراء الكبار لظنِّي أَنه كتب الشكل الحديث لاعتباره الشعرَ الكلاسيكي بات عتيقًا لا يليق بالعصر”.
فإِلى هذا الشابّ وأَمثاله أُكرر: إِمتلكوا القواعد ثم جدِّدوا من خلالها، وإِياكم أَنْ تُؤْخَذوا بالمقولة السخيفة السامَّة: “يحِقُّ للشاعر ما لا يحِقُّ لغيره”، فالشاعرُ الشاعر هو المؤْتمَن على الأُصول، ومنها يُطْلع الروائع. وهو وحده يحِق له أَن يرفض بقسوةٍ كلَّ جاهلٍ يخرُج على قدسية الأُصول.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib