ليبيا التي يريدها خليفة حفتر والسرد الخاطئ للإستبداد

يسعى المشير خليفة حفتر جاهداً للسيطرة على العاصمة الليبية، طرابلس، لكن قوات حكومة الوفاق، المدعومة من الأمم المتحدة، صمدت ولم تستسلم، بل واستعادت بعض المواقع التي احتلها “الجيش الوطني الليبي” الذي يقوده المشير. والسؤال الآن: إلى أين المسار؟

 

خليفة حفتر: يبيع الأوهام للغرب فهل يستطيع تحقيق حلمه؟

 

بقلم عماد الدين بادي*

نجح خليفة حفتر في حشد الدعم الخارجي له من خلال إقناعه الدول الأجنبية بأنه الرجل المناسب لإعادة الإستقرار إلى ليبيا، لكن هذا الجنرال السابق المارق والمستبد قد أثبت أنه وكيلٌ مزعج. في دعمها لهجومه المستمر على طرابلس، فإن الدول الأجنبية تُقَوِّض سرديتها عن الإستقرار الإستبدادي.

في الرابع من نيسان (إبريل) الفائت، شنّ حفتر هجوماً شاملاً على العاصمة الليبية، طرابلس، مما أدّى إلى وقف العملية السياسية المدعومة من الأمم المتحدة التي كانت في الصنع على مدى عامين. لطالما صُوِّرَ حفتر من قبل مؤيديه المحليين والأجانب باعتباره ترياقاً يحمل الإستقرار بدل الفوضى المستشرية في ليبيا. ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة فاحصة على تصرفاته حتى الآن، والديناميات التي يلعبها في الوقت الذي تتعثّر جهوده الحربية، تكشف حقيقة مختلفة تماماً. ربما يكون حفتر قد حطّم الوضع الراهن، لكنه لم يكن قادراً على تحقيق الأمن، وأشعل في الواقع الأزمات التي سعى إلى حلّها.

أكثر من حرب بالوكالة في طرابلس

منذ العام 2014، إستفاد “الجيش الوطني الليبي” الذي يقوده حفتر بدرجات متفاوتة من دعم المؤيدين الخارجيين، بما في ذلك مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وفرنسا وروسيا، إما في شكل أسلحة أو معدات عسكرية أو مستشارين قتاليين، أو التمويل. منذ بداية هجومه في أوائل نيسان (إبريل)، كانت قوات حفتر مدعومة بالغارات الجوية التي نفّذتها طائرات مُسيَّرة من طراز “وينغ لونغ” الصينية المعروفة بأنها بيعت إلى الإمارات العربية المتحدة. كانت الإنجازات الأولى التي حققها “الجيش الوطني الليبي” على مشارف طرابلس، في جزء كبير منها، بفضل عنصر المفاجأة، والمعدات العسكرية المتقدمة، والميزة التكتيكية التي توفرها قواته الجوية المتفوّقة. في وضع غير مؤات، لجأت حكومة الوفاق الوطني إلى تركيا للحصول على مساعدة عسكرية، والتي زوّدتها بطائرات “بايركتار” المُسيّرة، التركية الصنع، ومركبات مدرعة وأسلحة. وبقيامها بذلك، بدت أنقرة أنها تجرّأت على المجتمع الدولي بدعوتها إلى انتهاكات حظر الأسلحة المفروض على كلا الجانبين، وهو أمرٌ لم يكن أحد على استعداد للقيام به.

لقد أثبت دعم تركيا العسكري دوره في عكس وقلب الوضع. استخدمت قوات حكومة الوفاق الوطني الطائرات المُسيَّرة كجزء من عملية تحويل مُضللة في أواخر حزيران (يونيو) سمحت لها بالإستيلاء على قاعدة حفتر الأساسية الأمامية في غريان، على بعد 60 كلم جنوب طرابلس. وكشف العثور على طائرات بدون طيار من صنع الإمارات العربية المتحدة وأنظمة صواريخ “جافلين” الأميركية المضادة للدبابات، خلّفها عملاء فرنسيون، عن ازدواجية الداعمين الأجانب لحفتر، الذين وضعوا أنفسهم علناً كوسطاء سلام بينما يوفّرون له الدعم العسكري السرّي. مع فقدان أحد خطوط الإمداد الرئيسة، بدا هجوم حفتر غير مُستدام. لكن ما تلا ذلك كان تصعيداً غير مسبوق للغارات الجوية – بما يتجاوز القدرات المحلية للجيش الوطني الليبي – في مناطق حول طرابلس ومصراتة وغريان. يبدو أنه بهدف إخفاء عيوبه العسكرية، فإن مؤيدي حفتر الأجانب يعوّضون بشكل متزايد عن ضعفه بالقيام بالمهمة بأنفسهم.

في الوقت عينه، من المُضلّل وصف الصراع الليبي بأنه حربٌ بالوكالة لأن ذلك يفترض أن القوى الأجنبية تلعب فقط دوراً مُسانداً. المشاركة المباشرة على الأرض إنخفضت، ويسعى حلفاء حفتر الأجانب الآن إلى التغلب على قوات حكومة الوفاق الوطني بتفوّق جوي. وعلى الرغم من أن بعض الغارات الجوية التي شنها الجيش الوطني الليبي دمرت طائرات بدون طيار زوّدتها بها تركيا، فإن الاهتمام الأكبر للقوات المتحالفة مع قوات حكومة الوفاق الوطني هو أن هذا التصعيد قد يحدّ من قدرتها على نشر طائراتها المُسيَّرة والعادية.

ومع ذلك، فإن الإعتماد على القوى الأجنبية لتوفير التفوّق الجوي ليست استراتيجية مُستدامة، ولن يُتَرجَم إلى انتصار عسكري نظيف. هذا الأخير بعيد المنال بسبب هشاشة تحالف حفتر العسكري، الذي قد ينهار قبل أن يصل إلى طرابلس. في الواقع، تكشف الديناميات الداخلية بين حفتر وحلفائه عن شعور عميق بانعدام الثقة: فقد اغتيل إثنان من القادة المتحالفين البارزين من ورشفانة – في المناطق النائية بطرابلس – في ظروف غامضة في الشهر الماضي. حالياً، حلفاء حفتر الباقون الوحيدون ذوو موطئ قدم في غرب ليبيا هم الإخوة الكاني من ترهونة. وهؤلاء ليست لديهم سلسلة قيادة مستقلة بصرف النظر عن حفتر فحسب، بل يتمتعون أيضاً بسلطة أكبر على قواتهم مما لديه، بخاصة وأن الجيش الوطني الليبي فَقَدَ غريان ونقل غرفة عملياته الرئيسة إلى ترهونة، ووضعها بحكم الأمر الواقع تحت سيطرة الإخوة الكاني. لا يمكن لأي قدر من الدعم الجوي الأجنبي أن يُعوّض عن ضعف تحالفات حفتر الظرفية المناسبة. وبالتالي، فإن جهود حلفاء حفتر للتعويض عن عيوبه العسكرية هي في النهاية هزيمة ذاتية وقد تنشئ حالة عدم إستقرار في غرب ليبيا.

خيبة أمل في فزّان

على مرّ السنين، وُجِّهت إنتقادات إلى حكومة الوفاق الوطني لتجاهلها إقليم فزّان الجنوبي في ليبيا – وكانت مُحقّة. لقد أعطت المظالم والشعور بالتهميش في المنطقة حفتر الأساس المنطقي المثالي للتوسع هناك في شباط (فبراير) 2019، ليحل محل إخفاقات حكومة الوفاق الوطني في نجاحاته. عند العودة إلى الماضي، كانت عمليته المدعومة دولياً في الجنوب مجرد نقطة انطلاق لتصميماته الأوسع. وقد مكّنه ذلك من السيطرة على الإقليم الجنوبي وتقديم هجوم طرابلس على أنه أمرٌ لا مفرّ منه، في حين منحه ذلك من الناحية العسكرية ميزة التعبئة نحو العاصمة من الشرق والجنوب. في الممارسة العملية، قام حفتر بدمج بعض الفصائل في هيكل “الجيش الوطني الليبي”، واختار بعض الأفراد للانضمام إلى هجومه على طرابلس، وحصل على قدر من الشرعية الإجتماعية من خلال تقديم الغذاء والدواء والأوراق النقدية المطبوعة في روسيا.

ومع ذلك، فإن عملية فزّان أشعلت العداء العرقي بين العرب و” التُبو” (القُرعان)  – وهم مجموعة من الأقليات العرقية التي تسكن جنوب ليبيا – بسبب تهوّر حفتر المُتعَمَّد. تحت راية قتال “العصابات التشادية”، قام “الجيش الوطني الليبي”، إلى جانب القبائل ذات الغالبية العربية التي حشدها من أجل العملية – مثل قبيلة أولاد سليمان وقبيلة الزوي – بإساءة معاملة قبائل “التبو” بشكل منهجي، وخصوصاً في مرزوق، وشرّدها. بحلول منتصف آذار (مارس)، كانت قوات “الجيش الوطني الليبي” غادرت فزان للتركيز على هجوم طرابلس. وبقي عدد صغير من وحدات هذا الجيش لثني أي شخص يريد الإنضمام إلى قوات حكومة الوفاق في حملة طرابلس اللاحقة. لكن الأهم من ذلك، أن حفتر ترك وراءه الكثير من المظالم وحتى سلاماً إجتماعياً مُشوَّهاً أكثر مما كان عليه الحال قبل العملية.

إن تَوَسُّعَ حفتر في إقليم فزّان كان يُمكن أن تكون له آثار إيجابية لو أنه ركّز على تعزيز سيطرته هناك. بدلاً من ذلك، أدّى إنسحاب قواته والفراغ الذي تلا ذلك إلى اشتعال التوترات بين “التبو” والمجتمعات العربية في مرزوق. غير قادر على السيطرة على الموقف والإفتقار إلى قوة بشرية إضافية نتيجة لهجوم طرابلس، إعتمد حفتر مرة أخرى على مؤيديه الأجانب – وإن لم يحصل دائماً على النتائج المقصودة. على سبيل المثال، تسببت غارة جوية بطائرة بدون طيار على تجمع ل”التبو” في أوائل آب (أغسطس) في مقتل أكثر من 40 مدنياً، وأصبحت نقطة اشتعال رئيسة بين قبائل “التبو” والجماعات العربية. وتم تهجير أكثر من نصف سكان المدينة في أعمال العنف العرقية التي تلت ذلك.

على الرغم من أن المدنيين النازحين الآن في طريقهم للعودة إلى ديارهم بفضل الديبلوماسية المكوكية بين الشخصيات المحلية، إلّا أن الإحتمالات بأن يتمكّن “الجيش الوطني الليبي” مرة أخرى من توفير الأمن في فزّان باستخدام طريقة التشغيل عينها تبدو قاتمة. علاوة على ذلك، فإن التأثيرات المتتالية لحملة السيطرة على طرابلس قد تُحفّز الفصائل في الجنوب على التحالف مع التحالفات الأوسع. وعلى الرغم من أن هذا لم يحدث حتى الآن، إلا أنه من المحتمل أن يؤدي إلى انتشار العنف العرقي والمجتمعي إلى مدن أخرى في فزّان.

نَدَمُ المُشتري في برقة

تم تنفيذ “عملية الكرامة” التي قام بها حفترعلى مدى ثلاث سنوات في بنغازي من قبل إئتلاف من جماعات المصالح، وقوات الدعم (بشكل أساسي، مجموعات من شباب الأحياء في بنغازي)، وقبائل من شرق ليبيا، بما فيها قبيلة العواقير البارزة. في المقابل، توقعت هذه المجموعات أن تحصل على بعض المكافآت التي لم تتحقق. في الوقت الحاضر، تتضاءل ببطء قدرة حفتر على الحفاظ على توازن دقيق بين إدارة مطالب مجموعات المصالح هذه وقمع المعارضة. وهذا ما يفسر جزئياً السبب في أن المجموعات الرئيسة التي حُشِدت من أجل هجوم طرابلس هي من خارج بنغازي، ولا سيما من أجدابيا وترهونة وبني وليد.

بالإضافة إلى السيطرة على الإقتصاد والقطاع الأمني​​، قدّم حفتر نفسه للجماهير الشرقية كحَكَم لا غنى عنه يُمكنه التوسّط في النزاعات وتجاوز الإنقسامات القبلية والإيديولوجية. وعلى الرغم من أن الشرقيين يحتقرونه، إلّا أنهم قلقون أيضاً من الفوضى التي قد تنجم في حال رحيله. ومع ذلك، فإن القوى القبلية والمحلية التي قاتلت وماتت من أجل حفتر تتحدّى بشكل متزايد شرعيته. في بنغازي، تجلّى هذا الإحتكاك بين مراكز القوى المختلفة داخل “الجيش الوطني الليبي”.

لقد شهدت قوات الدعم التابعة ل”الجيش الوطني الليبي” – المؤلفة إلى حد كبير من أفراد قبيلة العواقير ذات النفوذ – والتي تسيطر على وسط مدينة بنغازي إلى جانب القوات الخاصة التابعة ل”الجيش الوطني الليبي”، العديد من المشاجرات مع اللواء الـ106 في “الجيش الوطني الليبي”، الذي يقوده نجل حفتر، خالد. تصاعدت التوترات حول المحسوبية المتصوَّرة ل”الجيش الوطني الليبي” وكذلك النزاعات حول السيطرة الإقليمية والسلطة، وقد نقلت وحدة خالد الآن قاعدتها الرئيسة إلى قاريونس، في الضواحي الجنوبية الغربية لمدينة بنغازي. قد تفسر هذه التوترات أيضاً إعادة هيكلة حفتر الأخيرة لجهاز الأمن التابع ل”الجيش الوطني الليبي” وترقية، من بين أمور أخرى، فرج قعيم – من قبيلة العواقير – إلى موقع بارز. على الرغم من أن الخيار المشترك قد يعمل على المدى القصير، إلّا أنه لا يُمكن لـحفتر إختيار وتعزيز كل شخص يُعبّر عن سخط، خصوصاً مع استمرار الصراع.

من ناحية ثانية تزيد الحرب الممتدة في طرابلس من حدة التنافس بين مراكز القوى الأخرى داخل جهاز “الجيش الوطني الليبي”، مثل السلفيين والموالين للقذافي، مما يؤجج عدم الإستقرار. إن الخطف العنيف – وربما حتى القتل – لسهام سيرجيو، وهي نائبة برلمانية أعربت عن معارضتها للحرب بشكل عام وحملة حفتر على وجه الخصوص، يعكس حالة أمنية متفاقمة في شرق ليبيا، وتشير إلى أن حفتر سوف يضطر إلى اللجوء إلى مزيد من القمع فيما الصراع يستمر.

الهروب من لعبة حصيلتها صفر

في حين قد يعتقد حلفاء حفتر الأجانب أنه ليس لديهم خيار سوى تقديم الدعم العسكري والسياسي لحمايته، فإن دعم هجومه هو بمثابة تأجيج عدم الإستقرار في جميع أنحاء ليبيا، مما يُقوّض الأساس المنطقي الذي يستند إليه دعمهم.

يجب على القوى الأجنبية إعطاء الأولوية لوقف الحرب، بدلاً من الوقوع في لعبة محصلتها صفر، إما إنقاذ حفتر أو تعريض “الجيش الوطني الليبي” لصراع خطير على السلطة أو التشرذم. بدلاً من استرضاء حفتر وتمويله وتسليحه، ينبغي على الدول الأجنبية أن تتجاهل سردية الأمن والإستقرار التي يُروِّج لها. إن إلقاء نظرة مُتَّزنة على الفوضى المتصاعدة التي خلّفها في المناطق التي زعم أنه استقر فيها سيكون خطوة أولى ممتازة في هذا الصدد.

  • عماد الدين بادي باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط. وهو باحث ومُحلّل سياسي يُركز على الحكم والصراع والإقتصاد السياسي في ليبيا والساحل. إن وجهات النظر المعروضة في هذه المقالة هي خاصة به ولا تمثل بالضرورة آراء “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى