لم تكن إتفاقية “سايكس بيكو” دواء مرّاً للبعض

لندن – ميشال مظلوم

أطلقت مرور مئة عام على إتفاقية “سايكس بيكو” العديد من إعادة تقييم ما قد يُمكن أن تكون عليه منطقة الشرق الأوسط لو لم توافق بريطانيا وفرنسا في العام 1916 على تقسيم الإمبراطورية العثمانية لأغراضهما الخاصة.
مع ذلك، هناك شيء واحد لم يُفعَل هو مبادرة إعادة النظر في تفسير القوميين العرب للإتفاقية. إن التفاصيل الكلاسيكية في هذا الصدد هي في كتاب صدر في العام 1938 للكاتب والمؤرخ اللبناني جورج أنطونيوس، بعنوان “الصحوة العربية”.
لقد صوّر أنطونيوس تفاهمات الحلفاء على الدولة العثمانية بإعتبارها خيانة لما كان قد وُعد به العرب، قبل كل شيء شريف مكة الهاشمي، حسين بن علي. حثّت بريطانيا الشريف على الثورة ضد العثمانيين، وجعلته يعتقد أنه في مقابل هذا سوف تعترف بمملكة عربية كبرى تحت حكمه.
لكن، في حين أن بريطانيا كانت تُقدّم وعوداً إلى الشريف حسين، كانت أيضاً تتعامل سراً مع فرنسا. لذلك، يقول أنطونيوس، لقد أحبطت القوى الأوروبية التطلعات العربية لبناء دولة مستقلة في الأراضي التي يحتلها العثمانيون وأوروبا، بدلاً من فرض حدود مصطنعة لتقسيم الشعوب العربية.
من الصعب نكران كيل البريطانيين بمكيالين في ما يتعلق بالشريف حسين. ولكن سيكون من السذاجة أن نرى في ذلك تقويضاً للرغبة العربية في إنشاء دولة عربية مستقلة. ما فعله البريطاني كان يعرقل طموحات سلالة شريف مكة، التي لا يمكن ان تتساوى مع السعي العربي من أجل الوحدة.
في الواقع، منحت بريطانيا في نهاية المطاف إثنين من أبناء الشريف، فيصل وعبد الله، مملكتين كانتا مرتبطتين إرتباطاً وثيقاً بها، ضامنة الحكم الهاشمي في العراق وشرق الأردن بعد العام 1921. وبعيداً من إصابتهما القوميين العرب بالمرارة، فإن المملكتين قد تحوّلتا إلى ركيزتين من ركائز القوة البريطانية في العالم العربي، خمس سنوات فقط بعد إتفاقية “سايكس بيكو”.
وليس من الواضح إذا كان الهاشميون عكسوا حقاً إجماعاً عربياً، لذا فإن القول بأنه كانت لديهم تطلعات عربية واسعة قد يكون غير دقيق. سوف يُظهر فيصل بالتأكيد على أنه أبرز معارضي فرنسا في العام 1920، قبل أن تُهزَم قواته العربية في معركة ميسلون من قبل الجيش الفرنسي تحت قيادة الجنرال هنري غورو.
مع ذلك، بالنسبة إلى نُخبة دمشق، التي كانت إزدهرت تحت حكم العثمانيين، عندما بدأت تؤيد قدراً أكبر من اللامركزية في إطار الإمبراطورية، كان هناك شكوك حول قدوم زعيم جديد من الصحراء. إن وجهاء المناطق الحضرية هؤلاء، الذين لعبوا دوراً مهماً في وضع مبادئ القومية العربية، لم يكونوا على يقين من أن فيصل يجسّدهم أو يمثّلهم.
وخط الصدع هذا لم يكن الوحيد بين الحضر والريف الذي يضع فكرة الوحدة العربية في نوع منظور. كان الشك أيضاً واضحاً في العراق، عندما تولّى فيصل السلطة. كان الشيعة، من بين أطراف أخرى، مترددين في البداية حول إحتضان هذا الملك السني الأردني الذي إستورده البريطانيون. ولكن القومية العربية لم تلعب أبداً على واقع الإنقسامات الطائفية.
مثل هذه الشكوك كانت بلا حدود وأكثر وضوحاً بين الأقليات الدينية غير المسلمة في أمكنة أخرى – خصوصاً الموارنة في لبنان، الذين رحبوا بالفرنسيين وفعلوا الكثير للضغط من أجل إستقلال لبنان الكبير.
في أيلول (سبتمبر) 1920 أنشأ الجنرال غورو دولة لبنان، الأمر الذي أدّى إلى إستياء القوميين العرب. ومع ذلك، فقد خفّ إستياؤهم تدريجاً في جميع الأنحاء وقبلوا بالدولة الجديدة والمشاركة في مؤسساتها.
لحرمان القومية العربية من السلطة سيكون تزييفاً للتاريخ. مع ذلك، فإنه ربما أصدق أيضاً القول أن قوة القومية العربية توسعت بشكل رئيسي في معارضة القوى الاستعمارية الأوروبية خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين، بدلاً من إعتبارها عملاق نائم مصاب بالإحباط فقط من القوى الأوروبية.
إن شريعة القومية العربية، بحكم التعريف تقريباً، لا يمكنها أن تنظر في العديد من الاستثناءات التي تؤهلها. في حالة وجود مُثُل عربية تحتضن الجميع، فلا يمكن لأي شيء أن يقسّم العرب – مثل الدين أو المذهب أو القبلية أو الإقليمية. لإتهام البريطانيين والفرنسيين بتقسيم العرب يعني أن العرب في المقام الأول كانوا موحَّدين، عندما كانت الصورة مختلفة.
منذ سنوات عدة زرتُ دمشق. وعندما كنت هناك أدركتُ كيف كان الناس يترددون في مناقشة الطائفية. “هذا له علاقة أكثر بلبنان”، كان رد الفعل المتكرر من الناس الذين قابلتهم. واليوم، مزّقت الطائفية البلاد، في حين أن لبنان، الذي إعترف بنظامه الطائفي، بقي موحّداً رغم حربه، وذلك إلى حد كبير لأنه كانت لديه آليات في المكان لمعالجة واقع مجتمعاته المفككة.
الشيء نفسه ينطبق على القومية العربية. على الرغم من إعتبارها منذ فترة طويلة على أنها طائفة علمانية للشرق الأوسط، فإن الحركة نحو إنشاء دولة عربية واحدة لم تتقدم كثيراً خلال فترة ما بعد الإستعمار. وظلت حدود “سايكس بيكو” في المكان، تدافع عنها بحرارة الأنظمة التي بنت أسس إيديولوجياتها على إنسحاب الإمبريالية الغربية.
الذكرى المئوية لسايكس بيكو يجب أن تحفز القوميين العرب المراجعة وإلقاء الضوء على أنفسهم. إن إلقاء اللوم على بريطانيا وفرنسا ليس كافياً لتفسير فشل القومية العربية خلال القرن منذ وقعت الاتفاقية، ناهيك عن الدولة العربية الحديثة. لكن الأسطورة هي دائماً أسهل للقبول من الحقيقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى