الإمارات ولبنان: رسائل نيويورك!

محمّد قوّاص*

أظهرت دولةُ الإمارات العربية المتّحدة، من خلالِ مجلس الأمن الدولي، خياراتٍ وسياساتٍ تجاه لبنان وشروط السلم على حدوده والرؤية التي تراها سببًا أساسيًا للأزمة التاريخية التي يمرّ بها البلد. ولئن جاءت مداولاتُ التجديدِ لقوة الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل) في جنوب لبنان، أواخر الشهر الماضي، مناسبةً لعَرضِ الإمارات لرؤيتها والدفاع عن مبادئ تسيير العلاقات الدولية والأممية وصَونِ عمل القوات التي تعمل باسم المجتمع الدولي، فإنَّ الحدثَ أعادَ التذكير بالمواقف الخليجية والعربية حيال لبنان لجهة رفض نفوذ الدويلة داخل الدولة.

والظاهرُ أنَّ معركةً ديبلوماسيةً جرت في أروقة الأمم المتحدة كانت الإمارات طرفًا أساسيًا بها للدفاع عن طبيعة التفويض الأممي لقوات “يونيفيل” في جنوب لبنان. بقيت المعركة صامتة، غير أنَّ ما بين سطورِ المواقف التي صدرت في نيويورك أو تلك التي ظهرت في القرار النهائي رقم 2695 في 31 آب (أغسطس) الماضي ما يكشفُ صخبًا أدّى إلى إسقاطِ نسخات فرنسا مقابل التوافق على نسخةٍ نهائية.

لم يَنقُض “فيتو” روسي أو صيني الصيغة النهائية، و رحّبت المندوبة الدائمة للإمارات لدى الأمم المتحدة، السفيرة لانا زكي نسيبة، باعتمادها بعد أخذها بعددٍ من ‏المقترحات الرئيسة التي تقدّمت بها دولة الإمارات، بما فيها الحفاظ على اللغة المُعتَمَدة العام الماضي ‏بشأن ضرورة عدم تقييد أو إعاقة “الدوريات المُعلَنة وغير ‏المُعلَنة” للقوات الأُمَميِّة.

تورّطت فرنسا، بصفتها حاملة القلم الموكلة بصياغة القرار، في التشاطر في تقديم مسودّات لقرار التجديد للقوات الأممية العاملة في لبنان التي تأسست في العام 1978 واستحدثت مهامها وفق الاتفاق الذي أنهى الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006. أُدخِلَ على نسخةِ العام الماضي تطوّرٌ مَنَحَ تلك القوات مزيدًا من النفوذ والفعالية من خلال إمكانية قيامها بدورياتها وعملياتها من دون التنسيقِ المُسبَق مع الجيش اللبناني. وكانت دعواتٌ صدرت من داخل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية قبل ذلك تُطالبُ بمَدِّ صلاحياتِ تلك القوات لتشمل، إضافةً إلى الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، تلك التي تمتد شرقًا وشمالًا مع سوريا.

حاولت باريس “نَزعَ الدسم” عن القرار السابق واقتراحَ صياغاتٍ تشترطُ لحركة “يونيفيل” أن تجري دائما بالتنسيق “المُسبَق” مع الجيش اللبناني. وقد تحدّثت الصحافة القريبة من “حزب الله” عن مداولاتٍ أجراها الأخير مع الطرف الفرنسي وعن “عدم رضى” الحزب عن صياغاتٍ أدخلتها باريس على المسودّات الحديثة. أوحت هذه التسريبات أنَّ الحزب بات، بكل تواضع، وَصِيًّا على القرار الفرنسي في باريس.

صحيحٌ أنَّ أسطورةَ “الأهالي” كانت ناشطة لعرقلة عمل ال”يونيفيل” وترهيب القوّات الأممية إلى حدِّ قتل جنديٍّ تابعٍ للكتيبة الإيرلندية وجرح ثلاثة آخرين في حادثة العاقبية في 14 كانون الثاني (يناير) الماضي. غير أن الحزب أراد، من خلال الدولة اللبنانية ووزير الخارجية عبد الله بوحبيب، وقف هذه السابقة التي توفّر إطلالةً أُممية على أنشطة الحزب في لبنان. وذهب شطط الحزب إلى درجة الإعلان، من خلال أحد المنابر الإعلامية المحسوبة عليه، أنه “تواصلَ مع عددٍ من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، بحكم العلاقة السياسية القائمة معها، وتحديدًا روسيا والصين والبرازيل واليابان وسويسرا”.

شَرَحَت نسيبة، في كلمتها أمام مجلس الأمن، موقف الإمارات وخياراتها بشأنِ هذا القرار بأنَّ ‏‏”أولوية الدولة الرئيسة أثناء المفاوضات التي سبقت الاعتماد، ‏تمحورت حول تحسين دعم المجلس لجهود “يونيفيل” في ‏الحفاظ على الهدوء والاستقرار في جنوب لبنان والمنطقة ‏بمجملها”.‏ وقد اقترحت أبو ظبي إضافةَ لهجةٍ للقرار تُعزّزُ ‏استقلالية عمل “يونيفيل”، وتُشدِّدُ على مسؤولية حكومة بيروت‏ في تسهيل حرية حركة القوات الأممية إلى “جميع المواقع ذات ‏الاهتمام” في كافة مناطق عملياتها بدون عوائق.

تقومُ حيثيات السياسة الإماراتية داخل هذا الملف على بيئةٍ خليجيةٍ عربية تُمثّلُ الإمارات رؤاها داخل مجلس الأمن. وإذا ما يعكسُ موقفُ دول مجلس التعاون الخليجي حالةَ إجماعٍ شاملٍ شديدة الوضوح في كيفية مقاربة الأزمة اللبنانية، لا سيما في ما حملته المبادرة الكويتية في كانون الثاني (يناير) 2022 باسم التكتل الخليجي، فإنَّ الإمارات من داخل الصرحِ الأُممي تُمثّلُ المبادئ التي قامت عليها سياستها وسياسة دول الخليج والجامعة العربية في التعامل مع “حالة” الحزب في لبنان.

ويظهر الموقف الإماراتي الخليجي العربي أيضًا في ما عبّرت عنه نسيبة من خيبةِ أملِ دولة ‏الإمارات إزاء “الحذف غير المُبَرَّر” للإشارة غير المشروطة ‏إلى الاحتلال الإسرائيلي لقرية الغجر اللبنانية، وانتقادها ‏تردّد مجلس الأمن في ذكر “حزب الله”، باعتباره يُقوِّضُ قدرة ‏‏”يونيفيل” على تنفيذ ولايتها.

يعرفُ اللبنانيون سيرورة العلاقات التاريخية التي أرادتها دولة الإمارات منذ عهد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وصولًا إلى عهد الشيخ محمد بن زايد مع لبنان. ولطالما كانت الإمارات سندًا داعِمًا للبلد في السياسة والاقتصاد وحاضنةً لأبنائه داخل الكتلة العاملة على أراضيها. ولم تبخل الإمارات، على الرُغمِ مما أُسيءَ إليها من منابر “حزب الله”، في تقديمِ كلِّ العونِ المُمكن، لا سيما للجيش اللبناني والقوى الأمنية، حتى في ظل التوتر الذي طرأ على العلاقات مع بيروت بسبب السياسة الخارجية ضد مصالح الإمارات والخليجيين المُتأثّرة بسطوة الحزب على خيارات بيروت الخارجية.

ومع ذلك فإنَّ الموقفَ الرسمي للإمارات بدا مُتعاليًا عن الجراح، فأعادت نسيبة أمام المجتمع الدولي التأكيد على أنَّ ‏الإمارات ستواصل استكمال دورها، واضعةً “مصلحة الشعب ‏اللبناني والمنطقة بمجملها فوق أيِّ اعتبارات”.

بدت نسيبة واضحةً في التعبيرِ عن رَفضٍ مُطلَقٍ لسلطة الميليشيا ولوجود دويلة تتحكّم بأمنِ البلد في الداخل كما على الحدود الجنوبية. أشارت إلى مسؤولية “حزب الله” “في إثارةِ ‏التوتّرات على طول الخط الأزرق، والتي بلغت مستوياتٍ قياسية منذ حرب العام 2006، بما يشمل استمراره في انتهاك ‏قرارَي مجلس الأمن 1559 و1701″، موضحةً أيضًا ‏”دوره  في إطالة أزمات لبنان وعرقلة التحقيقات بشأن انفجارِ ‏مَرفَإِ بيروت في العام 2020”.‏

وإذا ما تبجّحَ الإعلام القريب من الحزب بمدى ما يمتلكه من نفوذٍ للتأثير على فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون وصولًا إلى التهديد بدفع حكومة بيروت إلى سحب تفويض “يونيفيل”، فإن نسيبة غمزت من قتاة المناورات الفرنسية مؤكّدةً باسم الإمارات أنَّ “ما من تسويةٍ قادرة على تغيير ‏حقيقة أن الشراكة مع “حزب الله” بُغية إحراز تقدّم في لبنان لم ‏ينجم عنها سوى خيبة الأمل والأسى، لا سيما للشعب اللبناني”‏.

يتميّزُ موقفُ الإمارات بالوضوح والحزم من الحزب على الرُغم من تطوّرِ علاقاتها مع إيران. تبعث أبوظبي برسائل جَليّة إلى بيروت وطهران بشأن التفريق ما بين العزم على إقامةِ علاقاتِ تعاونٍ وحسن جوار مع الدولة في إيران ورفضها التساهل مع ذراع إيران العسكري والسياسي في لبنان. واللافت أن طهران نفسها، ووفق دعوتها إلى إقامةِ نظامٍ إقليمي خليجي لم تُبدِ ولن تُبدي أيَّ اعتراضٍ على الموقف الإماراتي من الأورام الميليشياوية التي تُعبّرُ عن سياساتِ طهران في المنطقة عمومًا ولبنان خصوصًا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى