أَربَعُ دَرَجاتٍ للإنحدارِ الإسرائيلي: من دولةٍ شبهِ مَدَنية إلى دولةِ “كاوبوي”

سليمان الفرزلي*

حتى حرب غزَّة الجارية الآن منذ السابع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، كانت إسرائيل عالقةً في مأزقٍ سياسيٍّ داخليٍّ لم تستطع خرقَهُ في خمسِ جولاتٍ انتخابية عامة خلال أربع سنوات. فما استطاعَ أيُّ حزبٍ أو تجمُّعٍ أن يحصلَ على أغلبيةٍ قاطعة من الناخبين تُمَكِّنهُ من تَشكيلِ حكومةٍ واضحةِ المعالم، كما كانَ الحالُ في البداية بالنسبة إلى “حزب العمل” بعد قيام دولة إسرائيل في العام 1948. وهذهِ المرحلةُ الغامضةُ التي شهدت تلك الجولات الانتخابية، وطريقة تشكيل الحكومات المُتعاقبة التي أفرزتها، يُمكِنُ وصفها بأنها مرحلةُ “اللاحكومة”، وقد ظهرَ ذلك جَلِيًّا في تخبّطها المُخجِلِ في حرب غزَّة بحيث فقدت الهالة الخارجية المُصطَنعة التي كانت تُظَلّلها، فسقط عن وجهها القناع وأصبحت أُضحوكةَ العالم ومَوضِعَ اشمئزازه.
في إسرائيل الأولى بعد 1948، أَمَرَ أوَّلُ رئيسٍ للحكومة فيها دايفيد بن غوريون بعملياتٍ إرهابية جماعية ضد الفلسطينيين بهدفِ تهجيرهم، وقد نجحت تلك العمليات في حَملِ مئات الألوف منهم على النزوح إلى الدول العربية المجاورة. لكن عندما شعر بن غوريون أنَّ تلكَ العمليات الإرهابية بدأت تُشَكِّلُ وصمةَ عارٍ عليه، عاد فأَمَرَ بوقفها. وفي تلك اللحظة، وَجَدَ بن غوريون نفسه، ومشروعه الاستيطاني، على مُفتَرَقٍ صعب، فاتَّخَذَ قرارًا جريئًا بأن مَنَحَ الجنسية الإسرائيلية لمَن بقي من الفلسطينيين العرب في أرضهم، وباتت اللغة العربية في إسرائيل لغة رسمية إلى جانب اللغة العبرية بموجب القانون الذي ما زال ساريًا إلى اليوم، ويُطالِبُ بعضُ المُتَطرّفين بإلغائه. وقد شهدت هذه المرحلة نهضةً ثقافية فلسطينية لافتة، لَمَعَ فيها عددٌ من الشعراء والكتّاب الكبار، ومنهم مَن درسَ اللغة العبرية وبزَّ في مؤلفاته بتلك اللغة أكبر كتَّاب إسرائيل.
هذه هي الدرجة الأولى التي حَكَمَ فيها أشخاصٌ من السياسيين الإسرائيليين يُمكِنُ وصفهم بأنهم “رجالُ دولة”، أمثال بن غوريون، وموشى شاريت، وليفي أشكول، وغولدا مَائير، وشيمون بيريز.
ثم جاءت بعد الرعيلِ الأوّل، حكوماتُ جنرالات الجيش. ومع أنَّ الجنرالات هم الذين كانوا في واجهةِ حروبِ إسرائيل ضدّ العرب، فإنَّ بعضهم كانَ يميلُ بصورةٍ أكثر جدّية إلى إيجادِ صيغةٍ من “السلام” مع الدول العربية، وأبرزهم الجنرال إسحاق رابين، والجنرال إيهود باراك. لكن حكومات الجنرالات كانت دائمًا تُعطي انطباعًا بأنَّ السلامَ الذي تقبله هو المُتأتّي من نتائجِ الحروبِ التي سبقَ لهم أن خاضوها، أي “سلام الغالب والمغلوب”. لكنَّ اغتيالَ رابين على أيدي المتطرّفين الذين لا يريدون سماعَ حتى لفظة كلمة “سلام” مع العرب، أظهرَ في ما أظهر، مَواطِنَ الخَللِ العضوي الناخر في قلب الكيان الصهيوني. وأبرز ما في ذلك الإفصاح عن الطبيعة العدوانية والإرهابية لذلك الكيان، أنه يجيز الاغتيال كنمطٍ من أنماط العمل السياسي والأمني. وقد ظهرت بوادر هذا النمط من البداية عندما قام إرهابيون من منظمة “شتيرن” باغتيال الكونت فولك برنادوت (يوم 17 أيلول/سبتمبر 1948)، وهو ديبلوماسي سويدي من العائلة المالكة في السويد، فيما كان يقوم بعمله كوسيطٍ دولي في الصراع العربي–الإسرائيلي.
وبلغَ التدهورُ في أنماطِ الحُكمِ في الكيان الصهيوني إلى درجةٍ سمحت بوصول إرهابيين موصوفين إلى قمّة السلطة التنفيذية أمثال مناحيم بيغن (العضو المؤسس لمنظمة “أرغون” الإرهابية في فلسطين أثناء حكم الانتداب البريطاني)، وإسحاق شامير (زعيم جماعة “ليهي” الإرهابية المعروفة باسم “عصابة شتيرن”). فهذه الدرجات الثلاث من التقهقر في الكيان الصهيوني، بدأت برجال السياسة، وانحدرت الى درجة الجنرالات العسكريين، نزولًا الى الميليشيات التي قادها زعماء العصابات الإرهابية. لكنَّ المعالمَ الحقيقية لهذا الانحدار وتأثيراته الفعلية على مُجملِ الأوضاعِ في العالم العربي وفي العالم الأوسع لم تظهر في حينه لسببين جوهريين: أوّلهما الغطاء الأميركي والأوروبي الذي ستر كل العيوب في الكيان الصهيوني، ودفاع حلفائه الغربيين عنه بما ليس فيه، كالادعاء بأنه “الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، أو إظهاره بأنه راغبٌ في السلام العادل والشامل، بينما هو في واقع الأمر عازمٌ منذ البداية على حربٍ مُستدامة. أمّا السببُ الثاني، فهو مع الأسف تهافتُ معظم الدول العربية، وبدرجاتٍ متفاوتة على عقد صلحٍ مُنفرد مع الكيان الصهيوني، أو على تطبيع العلاقات معه، أو عقد اتفاقيات اقتصادية وأمنية تعترف به كدولة طبيعية في المنطقة العربية.
على أنَّ حُكمَ الدرجة الثالثة، أي حُكم زعماء الميلشيات والعصابات الإرهابية، وأوّلهم مناحيم بيغن، وجدوا نظيرًا لهم في لبنان أثناء الحرب الأهلية التي سمحت لهم بالتعاضد مع الميليشيات اللبنانية، ما أدّى في النتيجة إلى قيام إسرائيل باحتلال أكثر من نصف لبنان وصولًا إلى بيروت حيث ارتكبت مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين. فقد كان التحالفُ الميليشياوي هذا أوّلَ بوادر ظهرت عن المستوى المُتَدَنّي الذي بلغته دولة إسرائيل تحت حكم “الليكود” الذي ضمَّ بقايا العصابات الإرهابية، بل إن التجربة اللبنانية مع “الليكود” الإسرائيلي، أعطت مؤشّرًا إلى ما سيكون عليه التعاطي الإسرائيلي والغربي في دولٍ عربية معينة يُرادُ لها أن تنهارَ بفعلِ الصراعات الداخلية المُفتَعلة من خلال حالاتٍ ميليشياوية شتّى.
والآن في حرب غزَّة دخل الكيان الصهيوني في الدرجة الرابعة من التقهقر بقيادة بنيامين نتنياهو، يُمكِنُ وصفها بأنها “مرحلة الكاوبوي”، كما يعرفها الناس حول العالم من خلال أفلام “الوسترن” الأميركية. أي كأن تدخلَ زمرة من رعاة البقر المُسَلَّحين إلى مزرعةٍ وتقتلُ أصحابها، رجالًا ونساءً وأطفالًا، وتستولي على أرضهم ومُقتَنياتهم ومواشيهم ودواجنهم، وتُدَمِّرُ بيوتهم وزرعهم، ثم تسكر نشوى بما فعلت.
ومن أبرز مظاهر هذا الانحطاط أن تُعلِنَ جهاتٌ رسمية ومسؤولة في الدولة بأنها أجازت اغتيال قادة في منظمات المقاومة الفلسطينية والإسلامية التي تخوض الحرب مع القوات الإسرائيلية. وقد أقرنت القول بالفعل في غزَّة، وفي لبنان، وفي أماكن أخرى من المنطقة.
إنَّ مثلَ هذا النهج قد يُربِكُ المنظمات المُستَهدَفة لوقتٍ قصير، ريثما تتمكّن من سدِّ الثغرات الأمنية واتخاذ الاحتياطات اللازمة لاجتناب ذلك، لكن وجه الخطورة فيه أنَّهُ سلاحٌ ذو حدين. بل إن إسرائيل بنهجها هذا في مسارها التقهقري، تُعرّضُ مواطنيها وداعميها في أنحاء العالم كافة للخطر، ومحل استهداف مُضاد.
عندئذٍ يمكن لهذه الحالة من الاحتراب الشامل بين “الأشباح” أن تتحوَّلَ إلى حربٍ عالمية بطريقةٍ أخرى، أو ربما إلى حروبٍ شبه أهلية في مجتمعاتٍ بعيدة من موضوع الصراع. والآن تُسمَعُ دعواتٌ في داخل الكيان الصهيوني، إلى إجراء انتخابات جديدة غايتها إبعاد نتنياهو وإعادة تشكيل السلطة، ومن أبرز تلك الدعوات تلك الصادرة عن رئيس أركان الجيش غدي إيزنكوت، الذي شكّكَ بمجريات حرب غزة، وبإدارة نتنياهو لها، في السياسة من حيث رفضه للموقف الأميركي الداعي الى حلِّ الدولتين، وفي الحرب من حيث عدم الإفصاح عن حقيقة ما يجري في الميدان، ومن حيث إمكانية تحقيق الأهداف المُعلَنة.
لكن من غير المضمون أن تؤدّي انتخاباتٌ جديدة إلى زحزحة نتنياهو عن موقعه وغاياته المُضمِرة، إلّاَ بصراعٍ أهلي، شأن ما يجري في بعض أفلام “الكاوبوي”.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى