السيسي يريد “تبييض” السوق السوداء!
تستعد الحكومة المصرية لتدجين الإقتصاد غير الرسمي في البلاد من طريق دمجه في الإقتصاد الرسمي العام، وهي لذلك تحضّر إستراتيجية مع خبراء عالميين ومحليين لتنفيذ ذلك بعد إجراء الإنتخابات النيابية. ولكن ليس جميع الناس، كما بعض الخبراء، مقتنعين بأن الفكرة جيدة.
القاهرة – هدى أحمد
تعالت أصوات عراك عبر منتصف السوق بالقرب من محطة حافلات “ترجمان” في القاهرة، الأمر الذي دفع بالبائعين الذين يشعرون بالملل هناك بالإنطلاق بسرعة بعيداً من رفوف مبيعاتهم لمعرفة ما يجري، حيث إنضموا بدورهم إلى “حفلة” الصراخ الغاضب التي كانت تجري في موقف صغير للسيارات. فجأة وصل ثلاثة من رجال الشرطة بالزي الرسمي، وعملوا على تهدئة روع المتلاسنين، وما لبث الوضع أن إنتهى في لحظات.
“إنهم رجال يتجادلون حول أحقية البقع”، قال تاجر الملابس نصر عيسى (22 عاماً). مضيفاً: “هذا يحدث في كل وقت حول إحتلال البائعين لمساحات أو بقع غير مخصّصة و غير مرخّصة. تماماً كما يحدث في الشارع حقاً”.
في الواقع أن عيسى والمتشاجرين يشكلون عدداً قليلاً من مئات الباعة غير المسجّلين الذين، في 24 آب (أغسطس) الفائت، أخرجتهم الشرطة بالإكراه من وسط القاهرة. على الرغم من أن البائعين كانوا يعرفون أن رجال الأمن كانوا قادمين – فقد أنذرتهم الإدارة المحلية بأنها تودّ طردهم منذ تموز (يوليو) – فإن عيسى يقول بأن بعض الباعة كان يعتقد بأنه سيحصل على الأقل على إقامة مؤقتة في مراكز التسوّق الفارغة في المحطة. بدلاً من ذلك، إنتشر البائعون خارج موقف صغير للسيارات، عالقين، تحت أشعة شمس الصيف الحارقة، بين جدار خرساني وسياج بإرتفاع ثلاثة أمتار، مع عدد قليل من الزبائن.
يمثّل عيسى ومنافسوه طرازاً أصيلاً من إقتصاد السوق السوداء المصرية: رجال أعمال إنتهازيون يبيعون العلم خلال إحتفال وطني ويعودون في اليوم التالي لبيع “تي شيرت” (قمصان) “الرجل الوطواط” وسويرمان. إنهم أهداف عادية للشرطة ومركز للبيروقراطيين لإبتزاز الرشاوى، ويمثلون جزءاً صغيراً من إقتصاد غير رسمي “تحت الأرض”. ويشمل شركات لا تدفع الضرائب، وأصولاً عقارية غير مسجّلة مزعومة تصل قيمتها إلى 360 مليار دولار، وتوفّر ما يصل إلى 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وفقاً لبحث أجراه “معهد الحرية والديموقراطية” في البيرو.
رجال الأعمال هؤلاء هم أيضاً أهداف لمبادرة الحكومة الجديدة التي تسعى إلى إضفاء الطابع الرسمي على الإقتصاد غير الرسمي. وهي فكرة حاولت حكومات سابقة تنفيذها من قبل في مصر، ولكن هذه المرة، التوجيهات أتت من أعلى سلطة في البلاد.
شريف الديواني، رئيس المركز المصري للدراسات الإقتصادية، وهو الكيان الذي يدفع الحكومة إلى التركيز على الإقتصاد غير الرسمي منذ العام الفائت، يقول: “يقود الرئيس عبد الفتاح السيسي مبادرة من شأنها أن تشجّع عيسى وتجار الشارع من زملائه كي يصبحوا رجال أعمال في ظل القانون”.
المبادرة، يفسّر، ستبدأ من طريق إنشاء هيئة على المستوى الرئاسي للإشراف على الإصلاحات، بما في ذلك تدابير مكافحة الفساد وتبسيط الأجهزة البيروقراطية حول تسجيل الشركات. ويقول إن هذه الإصلاحات سوف تؤدي إلى تمكين المصريين، وإستعادة ثقتهم بالقوانين والمؤسسات العامة وإيمانهم بها بأنها يمكن أن تعمل لصالحهم، وفي نهاية المطاف خلق نظام ديموقراطي قوي. وبدوره يمكن للإقتصاد المصري أن يستفيد من هذه المساعدة. علماً أن البطالة في مصر تحوم حالياً حول 13.3٪ وبطالة الشباب عند 29 في المئة، وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
“من أجل أن تكون قادراً على التعامل مع الإقتصاد غير الرسمي ومعالجته يحتاج الأمر الى مؤسسة جديدة، مؤسسة جديدة تماماً مع رؤية واضحة جداً وفهم معنى هذا القطاع وما يدور حوله” قال الديواني. مضيفاً بأن “الرئيس هو الآن الذي يقود العملية …. هذا البلد لن يصبح ديموقراطياً ما لم يتم حلّ هذه المشكلة، لأن الناس معتادون على حماية وسطاء السلطة ضد الدولة التي هي في الواقع لا تخدمهم”.
تعتمد هذه المؤسسة الجديدة لتشكيل دورها الريادي على “المركز المصري للدراسات الإقتصادية” والإقتصادي البيروفي “هيرناندو دي سوتو”، الذي عمل على إضفاء الطابع الرسمي على إقتصادات سوداء عدة الأمر الذي جذب عدداً من قادة العالم إلى إستشاراته. وهذا يشمل رئيس البيرو السابق ألبرتو فوجيموري الذي حوّل معه “دي سوتو” نظام البلاد لتسجيل الأراضي خلال تسعينات القرن الفائت، والرئيس الغاني السابق جون كوفور الذي أطلق برنامج “دي سوتو” في العام 2002، كما أن الرئيسين المخلوعين المصريين حسني مبارك ومحمد مرسي، أجريا محادثات مع مركز أبحاث دي سوتو “معهد الحرية والديموقراطية”.
الرئيس السيسي هو الأحدث الذي يطلب المساعدة منه. لقد إلتقى دي سوتو ثلاث مرات بين أيار (مايو) وتموز (يوليو) الفائتين لإجراء محادثات بشأن خطة لدمج الإقتصاد الموازي. وسوف يعود دي سوتو إلى القاهرة خلال هذا الشهر لمناقشة تنفيذ المشروع وجدول زمني مع الحكومة ومجموعات القطاع الخاص، وفقاً لممثله الإعلامي في مصر. وقال مصدر مقرّب من الرئيس المصري أن الحكومة ربما تنتظر الإعلان عن موعد الإنتخابات البرلمانية وربما نتائجها قبل الشروع في أي إصلاح قانوني كبير.
تدور نظريات “دي سوتو” حول حقوق الملكية. وهي مسألة بسيطة للتطبيق بالنسبة إلى البائعين مثل عيسى لتسجيل مشروعه، أو إلى مُزارع لإمتلاك الأرض التي يعمل عليها، الأمر الذي يفتح “رأس المال الميت” في تلك الأصول التي يمكن إستخدامها كضمان للحصول على قرض للإستثمار والنمو. لكن إزالة الباعة الجوّالين بالقوة من وسط القاهرة يذهب تماماً ضد هذه النظرية. لا يزال الباعة يشكّلون شركات غير قانونية لا تملك وسيلة واقعية للإنضمام إلى الإقتصاد الرسمي.
في رسالة بواسطة البريد الإلكتروني قال “دي سوتو” بأنه حدّد 13 نوعاً من المشاكل التي دفعت الناس إلى الإقتصاد غير الرسمي في مصر – مثل حقيقة أن تسجيل شركة أعمال واحدة يستغرق 189 يوماً، و86 خطوة، و 1169 دولاراً، وأن رجل الأعمال يجب أن يوفّر 57 وثيقة لست وكالات مختلفة، وكلّها تحمل المعلومات عينها.
ويقدّر “دي سوتو” أن 8.2 ملايين مصري يعملون بشكل غير رسمي خارج القطاع الزراعي، مع 68 في المئة من هؤلاء يعملون في الشركات غير الشرعية و 22 في المئة في الشركات الرسمية. وفي كانون الثاني (يناير)، قال وزير المالية آنذاك أحمد جلال بأن القطاع غير الشرعي يضم 40 في المئة من القوة العاملة في البلاد.
إن الحجم الكبير للقطاع غير الرسمي – إقتصاد مواز حقيقي – يخلق مخاطر هيكلية. ويقول الديواني بأن الأدوات المعتادة لإدارة الإقتصاد غير صالحة للإستعمال عندما يكون قسم كبير من أصول البلاد والإنتاج مخفياً في السوق السوداء. على سبيل المثال، في العام الماضي إكتشفت صحيفة “اليوم السابع” أن مصانع الجبن غير المنظّمة “المستترة” تضيف “الفورمالدهيد” إلى منتجاتها لتمديد حياتها ومدة إستخدامها.
يقول الديواني بأنه ينبغي على الرئيس السيسي أن يُظهر بأنه جاد في الإصلاح من خلال البقاء بعيداً من أي شيء يُلمّح إلى تحصيل الضرائب، ومنح جميع تجار الشارع فوراً صفة رسمية، ووقف رجال الشرطة والبيروقراطيين من “إستخراج” الرشاوى – إنه أمر صعب، لكنه يقول أن الوضع يستحق كل هذا العناء. من الناحية النظرية، إن دمج الإقتصاد الموازي يجب أن يرفع عائدات الدولة من الضرائب وقاعدة الأصول في البلاد؛ والحدّ من الفقر من خلال منح شركات صغيرة غير رسمية الحماية القانونية للنمو والإندماج؛ وتمكين العاملين من الوصول إلى الضمان الإجتماعي؛ وينبغي فعل كل هذا فيما هو ينفّذ مطالب ثورة 2011 لتأمين “الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية”.
ولكن ليس الجميع يوافقون على أن وجود الإقتصاد غير الرسمي هو سيئ بالنسبة إلى مصر، أو أن حكومة السيسي يمكنها أن تعالج وتشفي الناس من عقود من إنعدام الثقة في مؤسسات الدولة.
يشير أنغوس بلير، مؤسس معهد أبحاث “سيغنيت”، إلى أن الحجم الكبير للقطاع غير الرسمي هو الذي أنقذ مصر خلال الأوقات الإقتصادية الصعبة خلال السنوات الثلاث الفائتة. ويقول بأن هذا القطاع يوفّر كمية كبيرة من السيولة، وأن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في مصر قد لا ينمو بمعدل 2.3 في المئة الآن (كما توقّع صندوق النقد الدولي) لو لم تكن كل هذه الإضافات غير المحسوبة من النقد تتحرك في الأسواق المصرية.
حتى رجال أعمال كبار ومن الوزن الثقيل يعتقدون بأنه ينبغي ترك الإقتصاد غير الرسمي لآلياته الخاصة. يقول أحمد الألفي، مؤسس صندوق رأس المال المغامر “سواري فينتشرز”، ومركز التكنولوجيا الجديد في وسط المدينة “الحرم اليوناني”، أن القطاع غير الرسمي يوزّع المخاطر على هياكل الإقتصاد المصري. مشيراً إلى كشك لتاجر صغير، قال الألفي: “إنه غيّر ما يفعله ثلاث مرات على مدى ثلاث سنوات. في يوم باع الهواتف النقالة، في اليوم التالي فتح بقالة، في اليوم بعد ذلك صار بائعاً للزهور”.
“إن المرونة في توزيع الإقتصاد غير المنظّم هي التي أبقت مصر على قيد الحياة”، مضيفاً. “هذا رسمي وغير رسمي، المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وغير الرسمية، وشركات غير مسجلة. أنا مؤمن كبير في توزيع كل الإقتصاد”، موضحاً.
وهناك أيضاً مسألة ما إذا كان لدى السيسي رأس المال السياسي الكافي للتغلب على تآكل الثقة في الحكومة والقانون. إن سوق “ترجمان” هي مثال ساطع على مدى الإيمان الذي يجب أن يفوز به السيسي والإصلاحيين من أجل العودة إلى إقناع الباعة مثل عيسى للإنضمام إلى الإقتصاد الرسمي. في شهر تموز (يوليو)، أعلنت محافظة القاهرة أن جميع الباعة المتجولين وسط المدينة عليهم الإنتقال إلى محطة حافلات “ترجمان”، قبل أن ينتقلوا مرة أخرى إلى سوق (مول) دائم الذي سيكلّف بناؤه 55.9 مليون دولار في ميدان عبد المنعم رياض، والذي يتوقع أن يكون جاهزاً للبائعين خلال ستة إلى ثمانية أشهر. ولكن عيسى لا يؤمن بالوعود بأن الموقع الجديد سيكون جاهزاً في الوقت المناسب، وهو متشكك جداً حول قدرة الحكومة على الوفاء بنصف حصّتها من الصفقة.
“أنا لا أثق بالسيسي، ولا أثق بمرسي، ولا في الحكومة، إنهم يكذبون لخدمة أهدافهم الخاصة وليس أهدافنا”، قال عيسى.
من جهته، يعتقد الديواني بأن السيسي سوف يستعيد رأس المال السياسي المفقود لدعم الإصلاحات التي لا تحظى بشعبية، وأنه سوف يضطر إلى الإعتماد على الحكومة لتحقيق نجاح مبكر مدعوم بدعاية جيدة – وهذه قد تكون فرصته. “المشكلة الأكبر تكمن في تحقيق اليقين ومصداقية البرنامج الجديد”، يوضّح الديواني.
ولكن إذا إلتزم السيسي، مع الوضع البطولي تقريباً الذي يتمتع به بين المصريين، الإصلاح وفشل، فإن الثمن سوف يكون باهظاً، حيث سيؤدي ذلك إلى تعميق عدم ثقة المصريين في المؤسسات العامة وإجهاض أي إيمان في الوعود السياسية المستقبلية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.