أنظمةُ الدَفعِ الرقمية أحدثُ ساحةٍ لمعركةٍ دوليةٍ جيوسياسية
أدّت التعريفات الجمركية الشاملة التي فرضها الرئيس دونالد ترامب وسياساته الخارجية المتقلّبة إلى مزيدٍ من زعزعة استقرار النظام المالي العالمي الهشّ أصلًا، مما زاد من إلحاح الجهود المبذولة في جميع أنحاء أوروبا وخارجها لاستعادة السيادة الاقتصادية.

جيريمي ماكاي وجوردان ساندمان*
في مقابلةٍ حديثة مع البرنامج الإذاعي الإيرلندي “نيوزتوك” (Newstalk)، عدّدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد أنظمةَ الدَفعِ التي يعتمدُ عليها معظم الأوروبيين في معاملاتهم اليومية. قالت وهي تَعدُّها على أصابع يد واحدة: “فيزا (Visa)، ماستِركارد (MasterCard)، باي بال (PayPal)، ألي باي (Alipay)”، قبل أن تَختُمَ بسؤال: “من أينَ تأتي كل هذه الأنظمة؟”. أدركَ المُحاوِرُ النقطة حتى قبلَ أن تُجيبَ لاغارد على سؤالها: الولايات المتحدة والصين.
وأضافت لاغارد أنَّ “مسيرةَ أوروبا نحو الاستقلال” يجب أن تتضمّنَ “إخضاعَ المدفوعات الرقمية لسيطرتها”. بمعنى آخر، التخلُّص من مُقَدِّمي الخدمات الأجانب، وإدخال “خيار أوروبي”.
ولكن بتوضيحها أنَّ أنظمةَ الدَفعِ السيادية أصبحت الآن محورية في سعي أوروبا نحو الاستقلال الاستراتيجي، لم تَكُن لاغارد تُصرّح سوى بالجُزءِ الخفي من كلامها.
في الأسابيع التي تلت فَرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكبر رسوم جمركية في قرن، ليُعلّق العمل بأشدّها قسوةً لمدة 90 يومًا، شكّك المُعلّقون في مستقبل الدولار الأميركي كحجرٍ أساس للاقتصاد العالمي. لكن في خضمِّ العناوين الرئيسة حول عائدات السندات وأسعار الأسهم، من السهلِ إغفال تحوّلٍ أكثر هدوءًا في النظام المالي الدولي جارٍ بالفعل: جهودٌ لاستعادة السيطرة المحلّية على المدفوعات الرقمية.
تَكمُنُ وراء الوظيفة الأساسية لتحويل الأموال رقميًا بُنيةٌ كثيفة وغير مرئية إلى حدٍّ كبير من غُرَفِ المقاصة وآليات التسوية ومنصّات المراسلة، بالإضافة إلى شبكةٍ من البنوك والوسطاء الماليين الآخرين. في العام 2024، عبرت الحدود مبالغ تُقدّر ب195 تريليون دولار، أي ما يقرب من ضعف قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي. سواء كانَ الأمرُ يتعلّقُ بشراء سنداتٍ بمليار دولار أو تحويل 100 دولار من عاملٍ مُهاجِر، فإنَّ كلَّ معاملة تمرُّ عبر نظامٍ مُعقَّد من الأنابيب المالية لا يفهمه إلّا القليل من الخبراء ولكن الجميع يعتمد عليه.
تُسيطرُ الولايات المتحدة على جُزءٍ كبير من هذا النظام، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. على الرُغم من أنَّ أميركا قد تجاوزتها الصين كأكبر دولة تجارية في العالم قبل عقد من الزمان، ولا تُمثّل اليوم سوى ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، إلّا أنها تمارس نفوذًا هائلًا على كيفية انتقال الأموال عبر الحدود وداخلها في جميع أنحاء العالم.
لا يُوجَدُ مكانٌ تتجلّى فيه سيطرة الولايات المتحدة على أنظمة الدفع الدولية بشكلٍ أوضح من جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، أو “سويفت” (SWIFT). صُمِّمَت شبكة “سويفت”، ومقرّها بلجيكا، كهيئةٍ محايدة لتوحيد معايير التواصُل بين البنوك في حقبة ما بعد مؤتمر “بريتون وودز” التي شهدت تحريرًا ماليًا. ولكن في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، أصبحت الشبكة أداةً من أدوات السياسة الأميركية. في العام 2006، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” أنَّ وكالات الاستخبارات الأميركية مُنِحَت حقَّ الوصولِ إلى بيانات “سويفت” في إطار جهودها لمراقبة مكافحة الإرهاب. ومنذ ذلك الحين، استخدمت واشنطن نفوذها السياسي، بما في ذلك التهديد بفرض عقوبات ثانوية، لإخراج إيران وكوريا الشمالية وروسيا من نظام “سويفت”.
سعت الدول، التي تخشى الضغوط الاقتصادية الأميركية، إلى بناء بدائل لنظام “سويفت”، لكنها لم تُحقّق نجاحًا يُذكَر. يربط “نظام تحويل الرسائل المالية” (SPFS) الروسي الآن المؤسّسات المالية في 20 دولة، ولكنه يعالج أقل من 1% من حركة بيانات “سويفت”. وقد سجّل “نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود” (CIPS) الصيني، وهو مركز مقاصة لليوان، 170 مشاركًا مباشرًا، لكن ما يُقدر بنحو 80% من مدفوعات “CIPS” تستخدم تقنية “سويفت”. أما نظام “بريكس باي” (BRICS Pay) المُقتَرَح، والذي من شأنه تسهيل المدفوعات بين دول مجموعة “بريكس” باستخدام تقنية “بلوكتشاين” (blockchain)، فلا يزال حتى الآن مجرّد كلام لا أكثر.
أما المدفوعات الرقمية المحلّية، فهي قصة مختلفة. فمن خلال شركتَي “فيزا” و”ماستِر كارد”، اللتين تُعالجان الغالبية العظمى من معاملات التجزئة الرقمية خارج الصين، تتمتّعُ الولايات المتحدة أيضًا بنفوذٍ على أنظمة الدفع المحلّية في الدول الأخرى. ولكن في مثال تمَّ تجاهله لكيفية تكيُّف الدول مع عالمٍ من الترابط المُسلّح، بدأت البنوك المركزية وشركات المدفوعات العامة الأخرى في نشر أنظمةٍ محلّية في محاولة لوضع البنى التحتية الحيوية للدفع تحت السيطرة المحلّية.
تُعدُّ البُنيةُ التحتية الرقمية العامة النَهجَ الأكثر نجاحًا حتى الآن. ويتمثّلُ جوهرُ هذا النهج في تطويرِ بروتوكولاتٍ مفتوحة تَربُطُ بين مقدّمي خدمات الدفع من القطاع الخاص والبنوك، وتُتيحُ لهم التنافُس. ويُعَدُّ البريد الإلكتروني مثالًا لفَهمِ البروتوكولات. فكما يُمكِنُ لمُستَخدِم “آوت لوك”(Outlook) إرسال بريد إلكتروني بسلاسةٍ إلى مستخدم “جي مايل” (Gmail)، وكلاهما يستخدم “بروتوكول نقل البريد الإلكتروني البسيط” (SMTP)، يُمكِنُ للفَردِ الذي يستخدمُ بروتوكولًا مفتوحًا الدفع لأقرانه أو الشركات أو حتى الهيئات الحكومية التي تستخدم أيَّ معالج مدفوعات مُتَّصل بالنظام. وبدلًا من فرضِ رسومٍ على هذه المعاملات من قِبل “فيزا” أو “ماستركارد” أو “ألي باي” أو أيِّ احتكارٍ محلّي، تُدارُ هذه المعاملات من قِبل جهاتٍ ذات مصلحة عامة مقرها في البلدان التي تعمل فيها.
يُعَدُّ كلٌّ من نظام المدفوعات البرازيلي “بيكس” ونظام واجهة المدفوعات المُوَحَّدة (UPI) الهندي من أبرز البنى التحتية للمدفوعات الفورية العامة. وتُعالجان بالفعل مئات الملايين من المعاملات يوميًا، مما يضع بلديهما في صدارة قائمة المدفوعات الفورية العالمية. ووفقًا لبحثٍ أجرته كلية لندن الجامعية، فإنَّ 93 دولة على الأقل تُشغّل أنظمة البُنى التحتية للدفع الرقمي بمستوياتٍ متفاوتة من التبنّي.
ومن أهمّ الدوافع لتطوير هذه الأنظمة تأثيرها في الشمول المالي، حيث تميل المدفوعات الفورية المُتوافقة إلى أن تكونَ أقل تكلفة من بطاقات الائتمان أو الأموال عبر الهاتف المحمول. على سبيل المثال، تُعَدُّ معاملات الند للند على “بيكس” (Pix) مجّانية، وتُمثّل المعاملات التي تشمل التجار 0.22% من قيمة المعاملة، مُقارنةً بـ 2.2% لمدفوعات بطاقات الائتمان. وقد خفّضت واجهة المدفوعات الموحّدة (UPI) الهندية التكلفة التي ينفقها المهاجرون الداخليون في الهند لإرسال الأموال إلى أوطانهم من 5% إلى 10%، إلى ما بين 1% و2%، مما أعاد الأموال إلى جيوب المستهلكين بدلًا من الوسطاء الماليين. وانخفاضُ التكلفة يعني وصول هذه الأنظمة إلى مئات الملايين من المستخدمين الجدد: فقد عرّفت شركة “بيكس” أكثر من 70 مليون برازيلي على الاقتصاد الرقمي.
لكنَّ التوجُّه نحو نظام الدفع المباشر لا يقتصرُ على الشمولِ فحسب، بل يتعلّقُ أيضًا بالسيادة، كما أكدت لاغارد في مقابلتها مع “نيوزتوك”. وقد أكّدَ انسحابُ مُقَدِّمي خدمات الدفع الأميركيين من روسيا، بعد الغزو الشامل لأوكرانيا في العام 2022، أنَّ أنظمة الدفع أصبحت جُزءًا من ترسانة الإكراه الاقتصادي الأميركي، مما يزيد من المخاطر المتعلِّقة ببناءِ بدائل سيادية.
بدأت الدولُ الآن التفكيرَ في رَبطِ أنظمة الدفع المحلّية كاستراتيجيةٍ لمنافسة نظام “سويفت”، مُتَّبِعَةً نهجًا تصاعديًا بعد فشل النهج التنازلي. على سبيل المثال، ترتبطُ البنية التحتية للمدفوعات الرقمية في سنغافورة بواجهة المدفوعات الموحَّدة (UPI) الهندية، مما يسمح للمستخدمين في سنغافورة إجراء المعاملات في الهند. وتشتركُ جهودٌ مثل مشروع “نيكسوس” التابع لبنك التسويات الدولية، بالإضافة إلى مشاريع إقليمية، مثل نظام الدفع والتسوية الأفريقي أو تطبيق “موجالوب” عبر السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا، التي تضم 21 عضوًا، في رؤيةٍ لاتحادٍ من البنى التحتية الوطنية للدفع، القادرة على التواصل مع بعضها البعض، والتي لا يمكن لأيِّ دولةٍ أن تنفصلَ عنها.
وينظرُ الاتحادُ الأوروبي الآن إلى هذه الحلول الإبداعية من الاقتصادات الناشئة، وهو يَرسُمُ خارطة طريقه الخاصة نحو السيادة المالية. وهذه ليست المرة الأولى التي يبذل فيها الاتحاد الأوروبي مثل هذا الجهد. في العام 2007، دعمت ثماني دول أعضاء مشروع مونيه، وهو حلٌّ أوروبيٌّ شاملٌ للدفع، وكانت تأمل في تفعيله بحلول العام 2010. لكن المشروع سرعان ما انهار وسط عقباتٍ تقنية، وغيابِ نموذجِ أعمالٍ قابلٍ للتطبيق، وتبايُن الأولويات بين البنوك المشاركة. وبالمثل، تعثرت مبادرة المدفوعات الأوروبية (EPI)، التي أُعيدَ إحياؤها والتي أُطلقت في العام 2020.
ما تغيّرَ الآن هو السياق. فقد أدّت التعريفات الجمركية الشاملة التي فرضها ترامب وسياساته الخارجية المتقلّبة إلى مزيدٍ من زعزعة استقرار النظام المالي العالمي الهشّ أصلًا، مما زاد من إلحاح الجهود المبذولة في جميع أنحاء أوروبا وخارجها لاستعادة السيادة الاقتصادية. إنَّ مهمّة “فيزا” تتمثَّلُ في ربط الشركات والأفراد عبر شبكة المدفوعات الأكثر “موثوقيةً وأمانًا” في العالم. ولكن طالما ظلَّ ترامب في البيت الأبيض، فسيكونُ من الصعب على أيِّ شركةٍ أميركية تعملُ في الخارج ضمان الموثوقية أو الأمان.
لقد أوضحت لاغارد: “علينا الحَدّ من هذا الضعف والتأكُّد من وجودِ عرضٍ أوروبي مُتاح. تحسُّبًا لأيِّ طارئ. لا أحد يعلم”.
- جيريمي ماكاي هو باحثٌ في سياسات التكنولوجيا الدولية في جامعة برينستون، وكان سابقًا مديرًا للمشاريع الخاصة في صندوق روكفلر براذرز.
- جوردان ساندمان هو زميل باحث فخري في كلية لندن الجامعية ومدير في صندوق “كو-ديفيلوب”، وهو صندوق خيري للتحوُّل الرقمي.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.