هل يستطيع العالم إيجاد بديلٍ من الدولار؟

سياسة الإحتياطي الفيديرالي تهدّد المستقبل الإقتصادي والسياسي للأسواق الناشئة

واشنطن – باسم رحّال

أظهرت الأزمة المالية الأخيرة في 2008 وما بعدها بأن سياسة بنك الإحتياطي الفيديرالي في واشنطن (البنك المركزي الأميركي) لم تكن آثارها محلية فقط، لكن كانت لها تداعيات خطيرة عالمية على الصعيدين الإقتصادي والسياسي.

بن برنانكي: كلامه أسقط رئيس أوكرانيا فيكتور يانوكوفيتش
بن برنانكي: كلامه أسقط رئيس أوكرانيا فيكتور يانوكوفيتش

 

في نيسان (إبريل) 2013، كانت أوكرانيا تتصارع مع عجز ضخم في الحساب الجاري بلغ ثمانية في المئة، وكانت في حاجة ماسة إلى دولارات لدفع ثمن واردات حيوية. مع ذلك في 10 نيسان (إبريل)، رفضت حكومة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الشروط التي حدّدها صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة من الدعم المالي قدرها 15 مليار دولار، وإختار بدلاً من ذلك مواصلة تمويل الفجوة من الإنتاج المحلي ومن إستهلاك البلاد الأعلى بكثير من طريق إقتراض الدولارات الضرورية من القطاع الخاص في الخارج . لذا لاحقاً بعد أسبوع، أصدرت كييفسندات باليورو مدتها عشر سنين ويساوي قدرها حوالي 1.25 مليار دولار، والتي إستحوذت على إهتمام وإقبال كثير من المستثمرين الأجانب لعائدها المرتفع البالغ سنوياً 7.5 في المئة.

بدا أن كل شيء يسير بنجاح، حتى 22 أيار (مايو) 2013، عندما لمّح رئيس مجلس الإحتياطي الفيديرالي الأميركي آنذاك بن برنانكي إلى أنه إذا إستمر الإقتصاد الأميركي بالتحسن سوف يخفف البنك المركزي من التيسير الكمي ويالتالي من شراءاته الشهرية لسندات الخزانة الأميركية والسندات المدعومة بالرهن العقاري. وكان البنك بدأ مشترياته في أيلول (سبتمبر) 2012 من أجل تخفيض أسعار الفائدة على القروض الطويلة الأجل وتشجيع الإقراض الخاص؛ وهذا يعني في نهاية المطاف عائدات أعلى على السندات الأميركية الطويلة الأجل، الأمر الذي يجعل الأسواق النامية بالتأكيد أقل جاذبية. لذا كان رد فعل المستثمرين في السندات الأوكرانية وحشياً بالنسبة إلى إشارة الإحتياطي الفيديرالي وتلميح رئيسه، حيث أغرقوا السوق بالسندات الأوكرانية الأمر الذي رفع عائداتها لتقترب من 11 في المئة، وهو المستوى الذي ستبقى عليه معظم بقية العام.

الواقع أن المشاكل المالية في أوكرانيا كانت تتراكم على مدى سنوات عديدة، ولكن إحتمال ضخ الإحتياطي الفيديرالي دولارات جديدة أقل في السوق شهرياً هو الذي دفع التكلفة صعوداً ودحرج ديونها وهذا دفع بدوره إلى سداد السندات القديمة بإصدار سندات جديدة – وكان ذلك أكثر وأكبر من قدرة كييفعلى الدفع. ولو بقي بنك الإحتياطي الفيديرالي صامتاً، كان يمكن لأوكرانيا على الأقل تأخير أزمتها المالية، وتأخير أزمة يعني أنه كان يمكن تفاديها. في نهاية المطاف تحوّل يانوكوفيتش إلى طلب المساعدة من موسكو، والتي طالبت بنجاح في المقابل تخلّيه عن إتفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي. لذا نزل الأوكرانيون إلى الشوارع والباقي هو تاريخ.

ولكن التاريخ حتى الآن تغاضى عن دور إشارة بنك الإحتياطي الفيديرالي إلى تخفيف شرائه السندات الأميركية الذي لعبه في إطاحة يانوكوفيتش والفوضى التي أعقبت ذلك. وتصبح هذه الرؤية مثيرة أكثر للقلق عند معرفة أن أوكرانيا هي فقط أحد البلدان الهشّة الكثيرة التي تعتمد على الدولار حيث بمكن لأسواقها أن تتأثر وتنقلب بعنف بمجرد الإشارة إلى تغيير في سياسة البنك المركزي الأميركي.

دولار مقابل دولار

لعب الدولار الأميركي دوراً فريداً في الإقتصاد الدولي. على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تستحوذ إلّا على 23 في المئة فقط من الناتج الإجمالي الإقتصادي العالمي، فإن أكثر التجارة في العالم خارج منطقة اليورو و60 في المئة من إحتياطات النقد الأجنبي مقوّمة بالدولار الأميركي. وبالنسبة إلى البلدان النامية خصوصاً، فإنها تستخدم في معظم تفاعلها الإقتصادي مع بقية العالم كمية ساحقة من الدولارات الأميركية. وبالتالي فإن التغيّرات في السياسة النقدية لواشنطن يمكن أن تكون لها آثار عالمية فورية وكبيرة، بينها توسيع أو تضييق تدفق رؤوس الأموال من والى الدول النامية وتذبذب قيمة عملاتها مقابل الدولار، الذي يمكن بدوره أن يغيّر معدّلات التضخم المحلية بشكل كبير وحجم الصادرات. ونتيجة لذلك، فإن السيادة النقدية للعديد من البلدان ليست أكثر من مثالية غير قابلة للتحقيق. وإدراكاً لهذا، أقدمت بلدان عدة منها، مثل الإكوادور والسلفادور، في الآونة الأخيرة على خطوات جذرية وذلك بالقضاء على عملاتها الوطنية الخاصة كلياً وإلغائها، وإعتماد الدولار الأميركي للإستخدام المحلي وكذلك في الخارج.

بعد تلميح برنانكي في أيار (مايو) 2013، كانت أوكرانيا البلد الوحيد بين العديد من الدول النامية الذي عانى من عمليات البيع الضخم لسنداته وعملته الوطنية في الأسواق المالية، فيما عمد المستثمرون على نقل أموالهم إلى إستثمارات جديدة أكثر أماناً في الولايات المتحدة. مع ذلك، لم يكن البيع عشوائياً. وكانت البلدان الأشد تضرراً البرازيل، والهند، وإندونيسيا، وجنوب أفريقيا، وتركيا – غارقة في عجز واسع في الحساب الجاري، الذي يتطلب تأمين التمويل من رأس مال مستورد. وقد تعافت أسواقها بشكل متواضع بعد إعلان مجلس الإحتياطي الفيديرالي غير المتوقع في أيلول (سبتمبر) 2013 عن تأخير تنفيذ قراره بتخفيف التيسير الكمي وشرائه سندات الخزانة الأميركية، لكن الأمر ما لبث أن تغيّر في كانون الاول (ديسمبر) الفائت عندما أعلن البنك أنه سوف يمضي قدماً في برنامجه وتنفيذ القرار .

مؤتمر "بريتون وودز" في ولاية نيوهمشاير الأميركية: وضع الأسس المالية والنقدية للنظام العالمي
مؤتمر “بريتون وودز” في ولاية نيوهمشاير الأميركية: وضع الأسس المالية والنقدية للنظام العالمي

فيما كانت هذه الأسواق تترنّح، إنتقد العديد من قادة الدول المتضرّرة واشنطن لأنانيتها ورؤيتها الضيّقة. “لقد إنكسر التعاون النقدي الدوليقال محافظ البنك المركزي الهندي، راغورام راجان، غاضباً في أعقاب عمليات بيع أخرى لعملة وسندات بلاده في الأسواق في كانون الثاني (يناير) الفائت. مضيفاً بأنه يمكن للبنك الإحتياطي الفيديرالي الأميركي، وغيره من البنوك المركزية في العالم الغني، مجرد غسل أيديها والقول سنفعل ما نحتاج فعله وأنتم تتكيّفون مع التعديل“.

في محاولة لفهم ما كان راجان يتوقعه من مجلس الإحتياطي الفيديرالي ولماذا كان غاضباً جداً، فإن النصوص المسرّبة أخيراً من إجتماع لجنة السوق المفتوحة الفيديرالية الأميركية في تشرين الأول (أكتوبر) 2008 تلقي الضوء على ذلك. فهي تكشف أن أعضاء اللجنة كانوا يدركون تماماً خطر هذا النوع من الأزمة العالمية المتزايدة، مع ذلك لم يركّزوا على وقف إنتشارها في الأسواق الناشئة عموماً، ولكن إنصب إهتمامهم على الحد من إنعكاسها على الولايات المتحدة. لقد إتفق الأعضاء على فتح خطوط مبادلة مالية بين بنك الإحتياطي الفيديرالي والبنوك المركزية في الأسواق الناشئة، حيث يقوم البنك المركزي الأميركي بمنحها قروض بالدولار مقابل عملاتها كضمان، شرط أن تكون القروض مؤقتة ومحدودة لتلك الدول التي تُعتبَر مهمة وكبيرة في النظام المالي الأميركي: البرازيل، والمكسيك، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، حيث من المحتمل أن تنتشر كل هذه المشاكل منها مباشرة إلى الأسواق الأميركية. على سبيل المثال، أعرب دونالد كوهن، الذي كان في حينه عضواً في مجلس محافظي الإحتياطي الفيديرالي، عن قلقه إزاء إحتمال بيع الأوراق المالية الصادرة عن مؤسستي الرهن الوطنية الإتحادية فاني مايوفريدي ماكالمدعومة بالرهن العقاري إلى الخارج لإطعام أسواق الرهن العقاري في الولايات المتحدة، الأمر الذي يدفع بمعدلات الفائدة على الإقتراض إلى الإرتفاع. بعض الدول قد يتبع هذا الطريق، قال كوهن، إذا إفتقر إلى وسائل أقل ضرراً للوصول إلى الدولارات: مثل خطوط المبادلة المالية لبنك الإحتياطي الفيديرالي. ولن يكون ذلك في مصلحتناإذا قامت هذه الدول بنفسها بهذا العمل، يلاحظ كوهن.

في تلك السنة، رفض بنك الإحتياطي الفيديرالي بشكل خاص طلبات لمنح خط مبادلة مالي من تشيلي، وجمهورية الدومينيكان، وإندونيسيا، وبيرو. وبعد عامين، عندما صار الإقتصاد الأميركي أفضل وأقل عرضة لعدم الإستقرار المالي الأجنبي، أوقف الإحتياطي الفيديرالي خطوط المبادلة المالية مع البرازيل، والمكسيك، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية. بعد ذلك بسنتين، في العام 2012، رفض مجلس الإحتياطي الفيديرالي طلباً لمنح خط مبادلة مالي من الهند وهذا بالتالي ما يفسّر غضب راجان.

وكما تعرّض البنك المركزي الأميركي إلى إنتقادات وإتّهم بالتسبب في إنخفاض وغرق العملات الأجنبية بتلميحه إلى عزمه على تخفيف شرائه للسندات المالية الأميركية في العام 2013، كذلك أدين وإنتقد لفعله العكس، مما تسبب في إرتفاع العملات الأجنبية خلال البدء بعملية التيسير الكمي في العام 2010. وقد أصيبت بلدان عدة تعتمد على المنافسة للتصدير بأضرار شديدة نتيجة ذلك. كما شكا تشو قوانغ ياو، نائب وزير المالية في الصين في ذلك الوقت، بأن بنك الإحتياطي الفيديرالي لم يأخذ جيداً في الإعتبار صدمة رأس المال المفرط الذي يتدفق وتأثيره في الإستقرار المالي للأسواق الناشئة“. أما وزير المالية البرازيلي، غيدو مانتيغا، فكان أكثر سخونة عندما إتهم مجلس الإحتياطي الفيديرالي بالبدء في حرب العملات“.

مع ذلك، فإن التوقع من بنك الإحتياطي الفيديرالي أن يتصرف خلاف ذلك، مهما كان الأمر مرغوباً من بلدان أخرى، كان غير واقعي: إن الأهداف الأساسية لمجلس الإحتياطي الفيديرالي ضمان إستقرار الأسعار المحلية والحد الأقصى للتوظيف – شُرِّعت ووضعت بواسطة القانون، والبنك المركزي الأميركي غير مخوَّل لإخضاعها للمخاوف الأجنبية. والأمر الذي لا يثير الدهشة، أنه لم يظهر أي ميل للقيام بذلك منذ إندلاع الأزمة المالية قبل ست سنوات.

من بريتون وودزإلى بيتكوين

من السهل أن نرى لماذا بدأت حكومات أخرى تبحث عن بديل من الهيكل المالي العالمي الحالي الذي يهيمن عليه الدولار واحدٌ تكون فيه السياسة النقدية الأميركية أقل تأثيراً في الخارج. في العام 2009، ردّد حاكم البنك المركزي الصيني تشو شياو تشوان دعوة الإقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز التي أطلقها في أربعينات القرن الفائت لإنشاء عملة عابرة الوطنية حقيقية تحت إدارة صندوق النقد الدولي، تتولى الدور الدولي الضخم الذي يلعبه الدولار الأميركي. في الواقع، إن حقوق السحب الخاصة” (Special Drawing Rights) للصندوق، والتي تمثّل المطالبات المحتملة على العملات من أعضاء صندوق النقد الدولي، يمكن أن تلعب هذا الدور بالفعل. مع ذلك، ليست هناك حالياً فواتير، وإقتراض، أو إقراض للقطاع الخاص تجري أو تحدث في حقوق السحب الخاصة“. وإلى أن يتم تغيير ذلك، فليس هناك حافز يُذكر للبنوك المركزية لإقتناء الكثير منها أكثر مما تفعل حالياً ما مجموعه نحو ثلاثة في المئة من إحتياطات العملات العالمية.

الواقع أنه عندما طُرحت فكرة إنشاء حقوق السحب الخاصة، في أواخر ستينات القرن الفائت، فقد رفضها بشدة جاك رويف، المستشار الإقتصادي الرئيسي يومها للرئيس الفرنسي شارل ديغول، وإعتبرها بأنها لا تلبس لباس عملة“. وكان الإقتصادي البريطاني كينز قدّم تفصيلاً عن كيف يمكن لعملة صندوق النقد الدولي أن تتوسع عند دعمها، ولكنه لم يقدّم شيئاً أبداً عن كيف يمكن أن تتقلص. لذلك إعتقد رويف أن هيكلية حقوق السحب الخاصةلديها تحيّز أو وتوجه تضخمي حيث أنه لا وجود لبيروقراطية قادرة للسيطرة عليه. ودعا بدلاً من ذلك إلى العودة إلى معيار الذهب الذي كان سائداً في أواخر القرن التاسع عشر، والذي سمح لنظام تجاري متعدد الأطراف أن يزدهر من دون توليد الإختلالات العالمية التي تسبب أزمات. وقد فعل النظام ذلك، كما أوضح رويف، من خلال رفع أسعار الفائدة تلقائياً في البلدان التي لديها عجز وتخفيضها في البلدان ذات الفائض.

الواقع أن فكرة العودة إلى شكل من أشكال معيار الذهب لا يزال لديها بعض المؤيدين المعروفين اليوم، مثل رون بول، عضو الكونغرس الجمهوري السابق عن ولاية تكساس، ورجل الأعمال والكاتب لويس ليرمان. مع ذلك، بالنظر إلى المعاناة الشديدة التي تعاني منها الدول الأعضاء في منطقة اليورو الجنوبية منذ العام 2008، فإنه ليس من المستغرب أن مقترحات حكومات عدة للحد من إدارتها الفعّالة للشؤون النقدية الوطنية سواء من خلال إنشاء عملات دولية جديدة، مثل اليورو، أو من خلال العودة الى شكل من أشكال دعم السلع مقابل المال إعتبرت على نطاق واسع من قبل واضعي السياسات خطوات خطيرة ونُظر إليها على أنها متخلّفة. بطبيعة الحال، فقد أظهرت العملة الرقمية بيتكوين” (Bitcoin)أن شيئاً ما من خصائص المال العابر للحدود الوطنية ليس بالضرورة يجب أن يتم تشريعه من قبل صناع القرار. مع ذلك، في أعقاب الإنهيار الفوضوي لأم تي غوكس” (Mt. Gox)، التي كانت أكبر بورصة لالبيتكوين، بدت سوق البيتكوينبأنها آخر مكان يجب أن ينظر المرء إليه للحد من التقلبات وتجنب حدوث أزمة.

لا يزال كثيرون يشيرون إلى عصر بريتون وودزالذي تميّز بأسعار صرف ثابتة من 1946 إلى 1971، حيث عرفت التجارة إزدهاراً ونما الناتج العالمي بقوة، كمثال على نوع التعاون النقدي الدولي الذي يجب محاكاته. ولكن المبادرات الأخرى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مثل خطة مارشال في العام 1948 وإتحاد المدفوعات الأوروبي في العام 1950، تستحق الكثير من الفضل لإنعاش التجارة ودفع النمو. وعلاوة على ذلك، فإن النظام النقدي الذي وضعه صندوق النقد الدولي للإشراف بواسطته يمكن القول بأنه لم يبدأ حتى العام 1961، بعد 15 عاماً على إفتتاح الصندوق، عندما أقدمت أول تسع دول أوروبية على جعل عملاتها قابلة للتحويل إلى الدولار الأميركي. وبحلول هذا الوقت، كان النظام يعاني بالفعل من الضغط، فيما بدأت فرنسا وغيرها تطالب الولايات المتحدة بصرف دولاراتها الزائدة بكميات من الذهب.

محافظ البنك المركزي الهندي راغورام راجان: إنكسر التعاون الدولي
محافظ البنك المركزي الهندي راغورام راجان: إنكسر التعاون الدولي

يبدو اليوم أن رسم خارطة طريق لإصلاح التعاون النقدي بعيد المنال سياسياً. كان بريتون وودز، في جوهره، إتفاقاً بين بلدين كانت سياساتهما حاسمة بالنسبة إلى الإستقرار المالي العالمي: الولايات المتحدة، البلد الدائن المهيمن في العالم، والمملكة المتحدة، أكبر بلد مدين لها. وافق الأول على مساعدة البلدان التي تكافح مع عجز في الحساب الجاري، والثاني قبل بالإبتعاد من التخفيض التنافسي لقيمة العملة. اليوم، الصين هي أكبر بلد دائن في العالم، والولايات المتحدة أكبر بلد مدين لها. مع ذلك تبدو كلاهما أنهما غير راغبتين في التخلي عن أي قدر من السيطرة بكين حول سعر صرف عملتها وواشنطن بشأن أسعار الفائدة على الدولار حتى لو كان ذلك قد يخدم الصالح العالمي من الناحية النظرية.

كل هذا يشير إلى أن الإقتصاد العالمي محكوم بالبقاء لبعض الوقت معتمداً كما قال الإقتصادي في جامعة ستانفورد رونالد ماكينون على معيار الدولار المكروه“. لكن يعتقد ماكينون وزميله جون تايلور بأن هناك خطوات يمكن للبنك الإحتياطي الفيديرالي أن يتّخذها لإستعادة بعض الحبوالود في الخارج. وقد قال تايلور بأن الولايات المتحدة يجب ان تعود من جانب واحد إلى إتباع نهج في سياستها النقدية قائم أكثر على قواعد وأسس وأقل حذراً، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تدفقات رأس المال وخلق ظروف إقتصادية أقل تقلباً في الخارج.

تايلور هو بالتأكيد على حق في زعمه بأن القدرة على التنبؤ في السياسة النقدية الأميركية تاريخياً كانت عاملاً في المساعدة على تحقيق الإستقرار في الأسواق العالمية. مع ذلك إن عدم القدرة النسبي على التنبؤ لهذه السياسة اليوم هو نتيجة مباشرة للأضرار التي لحقت بالإقتصاد الأميركي من الأزمة المالية، التي دفعت بأسعار الفائدة القصيرة الأجل إلى الصفر وأجبرت بنك الإحتياطي الفيديرالي على الإرتجال. ينبغي أن لا يكون من المستغرب أن تكون وجهات النظر حول ما ينبغي أن يشمل هذا الإرتجال، وليس أقلها داخل بنك الإحتياطي الفيديرالي، كثيرة، ومتنوعة، ومتغيّرة. لم يحدث من قبل أن إختلف الإقتصاديون وصانعو القرار إلى هذا الحد على قواعد السياسة النقدية وتحت أي ظروف ينبغي أن تتبع قاعدة معينة، أو تُعدّل، أو التخلي عنها. وما لم يتم تقنين هذه القواعد، سوف يضع كل مسؤول في البنك المركزي قواعده المفضلة الخاصة، ودورياً ببساطة يغيّر رأيه بالنسبة إليها. في الواقع، لقد كان الأمر كذلك منذ العام 2010، عندما قام بنك الإحتياطي الفيديرالي بأول غزواته إلى حيّز السياسة النقدية غير التقليدية، مثل شراء الأصول على نطاق واسع.

في حزيران (يونيو) 2013، على سبيل المثال، حاول برنانكي توجيه توقعات السوق بتلميحه إلى أن بنك الإحتياطي الفيديرالي سينتهي من عملية شراء الأصول عندما يصل معدل البطالة إلى نحو سبعة في المئة؛ مع ذلك، فإن البنك بدأ بتخفيف متواضع للتيسير الكمي الشهري في كانون الثاني (يناير) الفائت، في الوقت الذي إنخفض معدل البطالة بالفعل إلى أقل بكثير من هذا المستوى، إلى 6.6 في المئة. في بعض الحالات، حاول بنك الإحتياطي الفيديرالي إقناع الجمهور بأنه لن يفعل أشياء معينة، مثل رفع أسعار الفائدة، حتى موعد بعيد معيّن (منتصف العام 2015). وفي الوقت عينه، قال بأنه قد يعاير تدخلات أخرى، مثل شراء الأصول، وفقاً للبيانات الشهرية عن العمالة وما شابه ذلك، التي عادة ما تكون متقلبة وبالتالي إقترح تغييرات متكررة في سلوك الإحتياطي الفيديرالي. ولا عجب بأن الأسواق كانت في بعض الأحيان على حافة الخطر.

السياسة الحمائية

ولكن هل يمكن للبلدان النامية أن تتخذ إجراءات من تلقاء ذواتها لحماية أنفسها من دون تعاون من الولايات المتحدة؟ في الواقع، إنها تستطيع ذلك. فقد خلصت دراسة حديثة صادرة عن صندوق النقد الدولي بأن البلدان التي كانت إقتصاداتها أكثر مرونة في مواجهة سياسة أميركا النقدية غير التقليدية منذ العام 2010 لديها ثلاث ميزات: إنخفاض الملكية الأجنبية من الأصول المحلية، والفائض التجاري، وإحتياطات نقد أجنبي كبيرة. وهذا له آثار سياسة واضحة: في الأوقات الجيدة، ينبغي على حكومات الأسواق الناشئة الحفاظ على تخفيض واردات وعملات بلدانها ورفع صادراتها وإحتياطاتها بالدولار.

للأسف، يرى كثيرون في الولايات المتحدة مثل هذه السياسات بأنها تلاعب غير عادل بالعملة، مما يلحق الضرر بالمصدّرين في الولايات المتحدة. لمنع الحكومات الأجنبية من إتخاذ مثل هذه الخطوات، دعا بعض خبراء الإقتصاد البارزين الأميركيين، مثل سي فريد بيرغستين” —بدعم من الشركات الكبرى الأميركيةالبيت الأبيض إلى إدراج أحكام ضد التلاعب بالعملة في إتفاقات التجارة في المستقبل. وقد ذهب البعض الآخر، بما في ذلك الإقتصاديان جاريد بيرنشتاين ودين بيكر، إلى حد دعوة واشنطن إلى فرض ضرائب على الحيازات الأجنبية لسندات الخزانة الأميركية، ورسوم جمركية على الواردات من الدول المتلاعبة المزعومة.

مثل هذه الإقتراحات هي مضلّلة؛ وهي ستثير فقط التوترات التجارية العالمية والصراع السياسي. ولكن الواقع الحقيقي بأن معلّقين بارزين يطالبون بهذه الإجراءات يوضّح كيف أن سير، أو خلل، النظام المالي والنقدي العالمي يمكن أن يشجّع دوامة من الإجراءات السياسية الضارّة. إن إتفاقات الصين الأخيرة مع البرازيل، واليابان، وروسيا، وتركيا للإبتعاد من التجارة القائمة على الدولار، على سبيل المثال، يمكن أن تقوّض النظام التجاري المتعدّد الأطراف. ويلعب الدولار الأميركي دوراً حاسماً في هذا النظام، فيما الدول هي على إستعداد للتصدير أكثر للتعويض عن الواردات، وذلك فقط لأنها تعتقد بأن الأموال التي تراكمها في العملية – دولارات أميركية – ستساعدها على الإحتفاظ بقوتها الشرائية العالمية مع مرور الوقت. وإذا أُخِذ الدولار خارج الصورة فسوف تقيم البلدان حواجز لمنع نشوء إختلالات في التجارة الثنائية، لإنها لن ترغب في تخزين عملات بعضها البعض الأقل مصداقية (رهان عادل بالنسبة إلى البرازيل وروسيا وتركيا). وإذا سار الجميع على هذا الطريق، فإن النتيجة ستكون ذلك النوع من الحروب التجارية الذي نشر الكساد العالمي في ثلاثينات القرن الفائت.

مستقبل الإحتياطي الفيديرالي

تأسس بنك الإحتياطي الفيديرالي في الولايات المتحدة منذ قرن لإنهاء حالة الذعر المصرفي المحلية. لقد رفع الخراب، الذي عاثى بالمالية البريطانية من خلال حربين عالميتين، بنك الإحتياطي الفيديرالي إلى مرتبة أعلى وفوق بنك إنكلترا، مانحاً له دوراً متميزاً في قلب النظام النقدي العالمي. ولكن حتى مع إزدياد قوة بنك الإحتياطي الفيديرالي، فإنه لم يعتمد الإتجاه عينه من الإشراف العالمي كما كان الحال مع نظيره البريطاني في القرن التاسع عشر. ولم يبدِ الكونغرس الأميركي من جهته أبداً أي رغبة في تغيير هذا الأمر، وأنه من الصعب التصور بأنه سيغيّر رأيه في أي وقت قريب.

نظراً إلى المسار الواضح لسياسة الولايات المتحدة، فإن إضطراب العملات والسندات في الأسواق الناشئة خلال العام الفائت ينبغي أن يحفّز عملاً جماعياً أكثر فعالية للدفاع عن النظام المالي العالمي ضد الإصابة المستقبلية الناجمة عن بنك الإحتياطي الفيديرالي. إن غالبية بلدان الأسواق الناشئة تفتقر إلى الموارد اللازمة لحماية أنفسها بشكل فردي. لكن يمكنها بناء إحتياطات من العملة كافية إذا تصرّفت وعملت معاً. في آسيا، على سبيل المثال، فإن مبادرة شيانغ مايالتعددية في العام 2010 تسمح للدول ال13 المعنية توظيف ما لديها من إحتياطات مجتمعة، والبالغة 240 مليار دولار، في حالة وقوع أزمة في ميزان مدفوعاتها.

للأسف، مع ذلك، هناك كثير من الكلام وقليل من التنفيذ. إن دول شيانغ مايلم تجمع فعلاً الأموال التي تعهدت بها، ويمكن للدول الأعضاء طلب أموال كبيرة فقط إذا كانت في إطار برنامج صندوق النقد الدولي، وبالتالي تخضع لمراقبة الصندوق وشروطه وهي حالة تحمل وصمة عار ثقيلة. في الواقع، كانت الحكومات في المنطقة متردّدة في منح الإئتمان لبعضها البعض في أثناء الأزمة المالية، وهي المرة الوحيدة التي كانت هناك حاجة إليه فعلاً. وفي الوقت عينه، كان إعلان دول بريكس” (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا) في 2013 عن عزمها على خلق بنك للتنمية خاص بها وعداً من دون تنفيذ. ولم توفر أيٌّ من المبادرتين بعد دولاراً واحداً للمساعدة المتبادلة، كما أنه من المرجح، كما يبدو حتى الآن، بأنهما لن تفعلا ذلك في المستقبل.

كل هذا يصب في خانة إظهار أنه من السهل التحسّر على غياب القيادة المالية الأميركية لأنه من الصعب أن يكون هناك بديل منها، حتى عندما تكون الموارد اللازمة للقيام بذلك متوفرة بسهولة. ونظراً إلى ولايته، فإنه ليس لدى بنك الإحتياطي الفيديرالي خيار سوى الإستمرار في متابعة الأهداف المحلية، بغض النظر عن العواقب بالنسبة إلى تلك البلدان التي لا يمكنها أن تهدّد بتصدير عدم الإستقرار الإقتصادي إلى الولايات المتحدة. ولكن اذا كانت واشنطن لا يمكنها القيادة، فإنه ينبغي عليها على الأقل الخروج من الطريق من خلال نبذ المطالبات الداعية إلى تطبيق تدابير لمكافحة التلاعب بالعملة ضد الدول التي تتّخذ خطوات مشروعة لتعزيز دفاعاتها ضد الصدمات الناجمة عن بنك الإحتياطي الفيديرالي في المستقبل. لأنه كما تفيد الأزمة المستمرة في أوكرانيا، فإن الأزمات المالية السيئة تميل إلى أن تصبح أكثر سوءاً سياسياً ومن المرجح أن يرى العالم الكثير منها، إقتصادياً وسياسياً على حد سواء، في السنوات المقبلة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى