الجريمةُ التي ستقودنا إلى القيامة

الدكتور فيليب سالم*

ويسألونك كيف تَجرُؤ على الكلام وانت في بحرٍ من الألم؟ وأيُّ كلامٍ يرقى إلى هَولِ الجريمة؟ ولماذا لا نزال نخاف من المجرم؟ وها أنت تعرف أننا نعرف هذا المجرم جيداً؟ نحنُ لا ننتظر تحقيقاً. إنّنا نعرفُ الحقيقة. لقد حدّد الألم في أعماقِنا هوية المُجرم واسمه. والجواب عندي هو أن هذا اليوم ليس وقتاً للخوف، إنه وقتٌ للحقيقة. يجب ان نتخطّى الألم، وننفض عنّا غبارَ الخوفِ والإحباط، ونلتحق بالثورة.  ولكنَّ الثورةَ لا تكونُ ثورةً إن لم تكن لديها رؤية واضحة لقيامة لبنان. لذا جئنا اليوم نَقتَرِحُ على الثورة الرؤية التالية: تدويل القضية اللبنانية، وإحياء الثورة بمفاهيم جديدة، وتغيير السلطة بالطرق الديموقراطية والحضارية، وتحديد استراتيجية مُحكَمة للفوز بالانتخابات النيابية المقبلة.

كان انفجار الرابع من آب/أغسطس، ثالث أهم انفجار في التاريخ المُعاصر. ولكن هذا الانفجار لم يكن نتيجة اعتداءٍ قامت به دولة ضد دولة أخرى كما حدث في ناكازاكي وهيروشيما. ولم يكن نتيجة عطلٍ تقني كما حدث في تشرنوبيل. كان عملاً إرهابياً قامت به ” الدولة” اللبنانية ضد شعبها. ويسألونك عن الحقيقة! فالحقيقة هي ان “الدولة” بجميعِ أركانها من رأسِها إلى أخمصِ قدميها كانت تَعرفُ خطورة الوضع في مرفأ بيروت. ولكن لم يجرؤ مسؤولٌ واحدٌ على القيامِ بعملٍ ما لتفادي المأساة. كلّهم خضعوا إلى السلطة المُزوَّرة. والسلطة ذاتها خضعت بكاملها إلى القوى التي تقبض على قرارها، قوى محور المُمانعة. لم تكن جريمةُ الرابع من آب/أغسطس جريمةً ضد المسيحيين، بل كانت جريمةً ضدّ كل اللبنانيين. ولم تكن جريمةً ضد لبنان فقط بل كانت جريمة ضدّ كلّ إنسان. كانت هذه الجريمة جريمةً ضد الإنسانية.  وهذا هو المدخل إلى تدويل القضية اللبنانية. لقد طرح البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، رأس الكنيسة المارونية، فكرةَ عقدِ مؤتمرٍ دولي لضمان حياد لبنان. ومن أجل ذلك دعا البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، إلى اجتماعٍ عُقِدَ في الفاتيكان منذ شهر تقريباً. في هذا الصدد نحنُ نخافُ أن يعتبرَ البعضُ هذا الطرح طرحا مسيحياً؛ وإنه خطةٌ لحماية الوجود المسيحي في الشرق. لذلك نحنُ نصرُّ ونقولُ إننا نُريدُه طرحاً لبنانياً، طرحاً وطنياً، طرحاً للمجتمع المدني في لبنان، طرحاً للثورة في لبنان. نحنُ نُؤمنُ بأن أهمَّ حمايةٍ للوجود المسيحي في الشرق هو في تفعيل دور المسيحيين، وفي الانصهار المسيحي-الإسلامي، وفي بناء الدولة المدنية. وعلينا ألّا ننسى أن الفاتيكان لا ينظر إلى لبنان كدولةٍ مسيحية بل يعتبره “أكبر من وطن، إنه رسالة“. يعتبره رسالة لأنه نموذجٌ رائعٌ لمُعانقة المسيحية للإسلام في الشرق.

ولا بدّ لنا من الشكر لدولة فرنسا ولرئيسها، ولدول الاتحاد الأوروبي على استعدادها لدعم لبنان. ولكن هذا الدعم ليومنا هذا ينحصر بالمساعدات الإنسانية وبتشكيل حكومة تحت مظلة قيادةٍ فاشلة وفاسدة. القيادة ذاتها التي أوصلت لبنان إلى هنا. قد يكون هذا النوع من الدعم ضرورياً في المرحلة الآنية إلّا أنه يبقى غير كافٍ.  المطلوبُ هو إحياء لبنان. المطلوب هو إزاحة السلطة الفاسدة عن الحكم وتحرير لبنان من محور الممانعة، وضمان حياده. لذلك نُطالب هذه الدول بعقد مؤتمر دولي للبنان بإشراف الأمم المتحدة. وإذا ذهبنا إلى هذا المؤتمر فماذا نطلب من العالم لمساعدتنا؟ نطلبُ وضع لبنان مرحلياً تحت المظلّة الدولية. فلبنان يحتاج بدون أي شك إلى دعمٍ اقتصادي، ولكنه يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير، فهو يحتاج إلى دعمٍ في السياسة والأمن والاستقرار. يحتاج إلى دعمٍ دولي لضمانِ استقلاله وسيادته وحياده. ونحن نُفضّل أن تكون هذه المظلة الدولية مظلة الأمم المتحدة، ولكن إن لم تكن هذه المظلة مُتوَفّرة فخيارُنا الثاني هو المظلة الأوروبية. إما بواسطة الاتحاد الأوروبي وإما بحلف شمال الأطلسي، او ما يعرف بحلف ال”ناتو” (NATO) .

بالإضافة إلى ذلك، نطلبُ وضعَ خطةٍ اقتصادية على مثال خطة مارشال التي تبنّتها الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية لإحياء أوروبا. فمن الصعب ان ينهض لبنان من هذا القعر بدون دعمٍ اقتصادي دولي على هذا المستوى.

وكيفَ نطلبُ مساعدة دول العالم، ونحن لسنا بصدد مُساعدة أنفسنا؟ الم نقتنع بعد أن مسؤوليةَ بناءِ لبنان الجديد هي مسؤوليتنا نحن لا مسؤولية غيرنا؟  لذا يجب إحياء الثورة وانتشالها من التخبّط العَبَثي الذي يفتك بها. ويجب أن نبدأ أوّلاً بتوحيدِ فصائل الثورة تحت رؤية مُوَحَّدة. ونحنُ نسأل، إذا لم يُوَحِّدنا الرابع من آب/أغسطس، وقعر الذلّ الذي وصلنا إليه، فأية قوة في الأرض ستُوحِّدنا؟ ألم نتعلّم بعد أن التشرذم يقتل الثورة؟ ويجب ثانياً إنشاء قيادة حكيمة للثورة تتولّى مسؤولية إيصالها إلى أهدافها. وأما ثالثاً فيجب نبذ العنف بكلِّ أشكاله. لقد كان العنفُ من أهم الأسباب التي أحبطت الثورة. لذلك نُعيد ما قلناه مراراً أنه يتوجّب على الثورة الإرتفاع إلى الحضارة. الإرتفاع إلى التمرّد اللاعنفي الحضاري. والبعضُ قد يسخر ويسأل كيف تطلب من الجياع تمرّداً لاعنفياً؟ أتذكروا أن الذين جاؤوا بفلسفة التمرّد اللاعنفي كانوا أفقر الناس وأكثرهم جوعاً؟ وخوفنا أن الحضارة قد تهاجر إلى وطنٍ آخر إن لم يكن لها وطنٌ يحتضنها. لقد كانت الحضارة ههنا قبل أن تكون في أيّ مكانٍ آخر.

ونأتي إلى الهدف الكبير للثورة ألا وهو تغيير الطبقة السياسية الحاكمة، وفرز طبقة جديدة تؤمن بأن لا سيادة فوق سيادة لبنان، وبأن الحكمَ ليس جاهاً بل هو مسؤولية، وبأن الولاء لا يكون للزعيم او للطائفة بل يكون للبنان. وبما أننا أبناء حضارة، فنحن نؤمن بأن الانتخابات النيابية المقبلة هي الفرصة المُتاحة لنا للتغيير بالطرق السلمية والديموقراطية. هذا مع العلم أن السلطة الحالية لا تُريد إجراء الانتخابات، وبالتأكيد لا تُريد إجراءها في الموعد المُحَدَّد لها؛ فهي تعمل على تأجيلها او إلغائها. لذا نطلب من المجتمع الدولي مساعدتنا لإجراء هذه الانتخابات في موعدها وبرعايةٍ دولية. نحنُ لا نأتمن إلى سلطة “الدولة”. هذه السلطة التي زوّرت هوية لبنان، لن تتردّد عن تزوير الانتخابات.

لقد أضعنا فرصاً كثيرة من قبل. يجب أن لا نُضَيِّع هذه الفرصة. نحن ندعو اللبنانيين كل اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، وضع قشورهم جانباً، والإلتحاق بمسيرةِ التغيير. إنها قضية لبنان ووجوده. قضيةُ الحضارة والحرية في الشرق. ليست هناك قضية أكبر من قضية الحرية لان الحرية تُحدّد ماهية الإنسان.

وأكادُ أسمعُ صوتاً خافتاً من بعيد يقول: “نسجد لآلامك” أيها الوطن الصغير، “فأرِنا قيامتَكَ المجيدة”.

  • الدكتور فيليب سالم هو طبيب ومفكّر لبناني-أميركي ورئيس مركز سالم للسرطان في هيوستن.
  • يصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى