الأمن العربي لم يَعُد خيارًا مُؤجَّلًا

كابي طبراني*

لم يَكُن العالم العربي يومًا غريبًا عن الانقسام، لكن نادرًا ما وُضِعَ أمامَ هذا الكمِّ من الأزمات المُتداخِلة في وقتٍ واحد. فعندما اندلعت حرب غزة في أعقاب السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كانت المنطقة أصلًا تعيشُ حالةَ إنهاكٍ سياسي وأمني: مساراتُ تطبيعٍ مُتباينة، صراعاتٌ داخلية مُزمِنة، نفوذٌ إقليمي مُتشابِك، واعتمادٌ طويل الأمد على قوى خارجية لإدارة التوازُنات. غيرَ أنَّ المُفارقة أنَّ هذه الصدمة الكبرى، بدل أن تُعَمِّقَ الشلل، دفعت عددًا من الدول العربية الأساسية إلى نمطٍ غير مسبوق نسبيًا من التنسيق الديبلوماسي والعمل الجماعي.

لا يعني ذلك أنَّ العالمَ العربي دخلَ فجأةً عصرَ الوحدة أو أعاد إحياء مشاريع العمل القومي القديم. ما نشهَدُهُ اليوم أكثر تواضُعًا، لكنه ربما أكثر واقعية: إدراكٌ متزايد لدى عواصم عربية محورية بأنَّ إدارة الأزمات بشكلٍ مُنفرِد لم تَعُد مُمكنة، وأنَّ تركَ الإقليم رهينةٌ لتفاعُلات إسرائيل وإيران وتقلُّبات السياسة الأميركية يُعرّضُ الجميع لخسائر استراتيجية يصعب احتواؤها.

منذُ نشوءِ الدول العربية الحديثة في منتصف القرن العشرين، لم يكن سجلُّ العمل العربي المشترك مُشجِّعًا. غالبًا ما اقتصرَ التنسيقُ على بيانات، أو تحالفات ظرفية، أو ردود فعلٍ دفاعية تهدفُ إلى منع تطوُّراتٍ غير مرغوبة أكثر مما تسعى إلى بناء بدائل إيجابية. وحتى في اللحظات الاستثنائية—من مبادرة السلام العربية في العام 2002 إلى تفاهُمات ما بعد حرب الخليج—كان الاعتمادُ شبه الكامل على القوى الكبرى، وخصوصًا الولايات المتحدة، سمةً ثابتة أفرغت كثيرًا من المبادرات من مضمونها.

لكنَّ المشهدَ بعد 2023 بدا مختلفًا في عناصره، إن لم يكن في نتائجه النهائية بعد. فالحربُ في غزة لم تكن مجرّد جولة عسكرية أخرى، بل أزمة مُتعدِّدة الأبعاد هدّدت بتفجير الإقليم بأكمله: إنهيارٌ إنساني غير مسبوق، خطرُ امتداد المواجهة إلى لبنان والبحر الأحمر، تصاعُدُ دور الميليشيات المُرتَبطة بإيران، وعجزٌ أميركي واضح عن فَرضِ وَقفٍ دائمٍ لإطلاق النار أو بلورة أفق سياسي مُقنِع. أمام هذا الواقع، لم يعد الاكتفاء بالإدانة أو الوساطة الصامتة خيارًا كافيًا.

برزت هنا مجموعةٌ من الدول العربية—مصر، السعودية، قطر، الأردن، والإمارات—بوصفها نواةَ تنسيقٍ فعلي، رُغمَ اختلافِ مصالحها وحساباتها. في البداية، عادت القاهرة والدوحة إلى أدوارهما التقليدية في إدارة الأزمات: وساطة، قنوات خلفية، ترتيبات إنسانية. هذه الجهود حققت نجاحات محدودة ومؤقتة، لكنها كشفت في الوقت نفسه حدود هذا النمط إذا لم يُدعَم برؤيةٍ سياسية أوسع.

التَحوُّلُ الأهم جاء عندما انتقلت الديبلوماسية العربية من مَوقِعِ رَدِّ الفعل إلى محاولة صياغة أجندة. فبدل الاكتفاء برَفضِ مُقتَرَحاتٍ خارجية حول مستقبل غزة—بعضها تضمّن عمليًا مخاطر تهجير أو إدارة طويلة الأمد بلا سيادة فلسطينية—قدّمت الدول العربية، عبر جامعة الدول العربية، خطّةَ إعادة إعمار مُتكاملة مطلع 2025. الخطّة لم تكن مجرّدَ أرقامٍ مالية، بل حملت تصوُّرًا للحُكم، والرقابة، والأمن، وأكّدت بشكلٍ صريح أنَّ الفلسطينيين يجب أن يبقوا على أرضهم وأن تكونَ أيُّ عملية إعادة إعمار مُرتبطة بحقوقهم السياسية.

هذا التحرُّك، رُغمَ محدودية نتائجه العملية حتى الآن، مثّلَ كسرًا لنمطٍ تاريخي: للمرة الأولى منذ سنوات، يجدُ الفاعلون الدوليون أنفسهم مُضطَرِّين للتعامل مع رؤيةٍ عربية مكتوبة ومُمَوَّلة، لا مجرَّد مواقف خطابية. هنا تحديدًا ظهرت قيمة العمل الجماعي، لا بوصفه شعارًا، بل كأداةٍ تفاوضية.

في موازاةِ ذلك، شهدت القضية الفلسطينية عودةً واضحة إلى صلبِ الخطاب العربي الرسمي. فبعدَ عقدٍ اتسمَ بتراجُع الأولوية الفلسطينية لصالحِ اعتباراتِ التطبيع والمصالح الثُنائية، فرضت مأساةُ غزة واقعًا سياسيًا جديدًا. الرأي العام العربي، إلى جانب المخاوف الأمنية من انفجارٍ أوسع، دفعَ الحكومات إلى إعادةِ رَبطِ أيِّ مسارٍ تطبيعي بتقدُّمٍ ملموس على صعيد الحقوق الفلسطينية. عادَ الحديثُ عن حلِّ الدولتين، مدعومًا بمبادراتٍ عربية–أوروبية واعترافاتٍ دولية متزايدة بالدولة الفلسطينية، وإن كانَ الشكُّ لا يزال كبيرًا في قابلية هذا الحل للتطبيق على الأرض.

الأهم ربما هو أنَّ هذه الديناميكية لم تقتصر على غزة. فقد بدأت في بعضِ العواصم العربية نقاشاتٌ جدّية حول مفهوم الأمن الجماعي الإقليمي. ليست هذه النقاشات ثورية أو مُؤسَّسية بعد، لكنها تشيرُ إلى تحوُّلٍ في التفكير: إدراكٌ أنَّ النزاعات المحلية—من فلسطين وسوريا ولبنان، إلى اليمن والسودان—لم تَعُد معزولة، وأنَّ غيابَ آليات تنسيق أمني وسياسي عربي يفتحُ البابَ أمامَ حروبٍ مُتزامِنة واستنزافٍ دائم. لذلك طُرِحَت أفكارٌ عن قوات مراقبة دولية، وتنسيقٍ أمني بحري، وحُزَم استقرار تربُطُ الأمن بالتنمية.

بطبيعة الحال، لا تزالُ العوائق كبيرة. انعدامُ الثقة بين الدول العربية، اختلافُ أولوياتها، التفاوُت في القدرات الاقتصادية والعسكرية، والحرصُ الشديد على السيادة الوطنية… كُلُّها عواملُ تَحدُّ من إمكانِ بناء هياكل دائمة. كما إنَّ الإنجازات حتى الآن بقيت قصيرة الأمد: الحربُ لم تُنهَ، الإعمارُ لم يبدأ فعليًا، والأمنُ الجماعي لا يزالُ فكرةً أكثر منه واقعًا.

ومع ذلك، فإنَّ ما تحقق منذ 2023 لا يُمكِنُ تجاهله. فقد أثبتت التجربة أنَّ التنسيقَ العربي، عندما يقترن بخططٍ قابلة للتنفيذ وموارد مالية حقيقية، يمنح العواصم العربية وزنًا تفاوُضيًا أكبر، ويُجبِرُ الأطراف الدولية على الإصغاء. كما أظهرت أنَّ الاعتمادَ الحصري على واشنطن لم يَعُد ضمانة كافية، وأنَّ تنويعَ الشراكات والانخراط المُتوازِن مع القوى الدولية باتَ ضرورةً لا خيارًا.

السؤال الجوهري الآن هو الاستدامة: هل يُمكِنُ لهذا التنسيق أن يتحوّلَ من استجابةٍ للأزمات إلى نمطِ عملٍ دائم؟ الإجابة ستعتمدُ على إرادةٍ سياسية قبل أيِّ شيءٍ آخر—إرادةٌ تقبلُ بإدارة الخلافات داخل إطارٍ جماعي، وتُدرِكُ أنَّ التنافسَ على “قيادة” الإقليم غالبًا ما يقودُ إلى شللٍ لا إلى نفوذ.

ربما لم يكتشف العالم العربي بعد نظامًا مُتكاملًا للأمن الجماعي، لكنه بدأ يكتشفُ شيئًا أكثر واقعية: أنَّ العملَ المُنفَرِد في إقليمٍ شديد الترابُط لم يَعُد مُجدِيًا، وأنَّ الحدَّ الأدنى من التنسيق أصبح شرطًا للبقاء لا ترفًا ديبلوماسيًا. هذه ليست نهايةَ الطريق، لكنها قد تكونُ بدايةً مختلفة عمّا اعتدناه.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى