الموارنة والشيعة: فُصُول التلاقي والتصادُم
هنري زغيب*
منذ مطالعي الكتابية الأَدبية آليتُ أَلَّا أُقاربَ موضوعَين: السياسة وأَهلها، والدين ومذاهبه. الأَوَّل لانزلاقاته الزئبقية بتغيُّر الظُرُوف، وما هذا هَمِّي ولا هدفي، والأَخير لوقوعه في مواقفَ تبْلغ التطرُّف الذي يُعمي فلا باب معه لأَيِّ حوار، وما هذا تطلُّعي في التزاماتي الكتابية. لذا اخترتُ منذ البد، أَن أَلتزم، فضاءً، مواضيع الآداب والفنون، لأَنها ثابتةٌ لا تتغيَّر، ولا تَقَلُّبَ في مسارها.
غير أَنَّ كتاب الإِعلامي أَنطوان سلامة “الموارنة والشيعة في لبنان – التلاقي والتصادُم” (“منشورات نوفل/هاشيت أَنطوان” – 466 صفحة قطعًا كبيرًا)، أَخرجَني من التزامي الأَدبي لأَلج معه إِلى التاريخ. والتاريخُ مَلْمَحٌ رئيسٌ في مسيرة الأَدب.
أَخَذَني في الكتاب أَوَّلًا أُسلوبُه. فأَنطوان سلامة كاتبٌ صحافيٌّ وإِعلاميٌّ متمرِّسٌ ذو كتابةٍ رشيقةٍ (ثقافةً ومهنةً وتدريسًا)، وتاليًا يأْخذ قارئه بسلاسةٍ إِلى مساحاتِ نصوصه، فلا يَتعَب ولا يَشعر بانزلاق الوقت بين صفحات الكتاب.
نعود مع الكاتب إِلى العصور الوُسطى، منذ بدايات الزمن الطائفي في لبنان، مع أَقدَم طائفَتَين فيه: المارونية والشيعية. تباعَدَتَا وتقارَبَتَا في مفاصلَ عدَّةٍ من تاريخ لبنان الوسيط فالحديث، وبقيَتْ كلٌّ منهما متماسكةً داخليًّا على متانة وإِيمان.
في تركيز المؤَلِّف على التناحُر التاريخي بين الجماعتَين، دلالةٌ على سعي كلٍّ منهما إِلى السيطرة الجغرافية والتمدُّد الديموغرافي، وإِلى بلوغ النفوذ في السُلطة. لا يدَّعي أَنطوان سلامة بلوغَ الحل ولا اقتراحَه، بل يكتفي بالعرض لتسهيل الفهم، في توثيق أَكاديميٍّ موسَّع ووثائقَ علْميةٍ ثابتة، تجعل القارئَ يَخْلُصُ إِلى استنتاجاته الشخصية، واختيار تَمَوْضِعِهِ الشخصيّ أَو تَباعُدِهِ في الجو الطائفي والنظام الطائفي والمسار الطائفي في لبنان القائم (إِلى متى؟) على أُسس طائفية وعصبيات طائفية ومستقبل (؟) طائفي. ولنا نماذج بيِّنةٌ بين المطالع المارونية وتلك الشيعية، كما بين جبل لبنان وجبل عامل: تلاقِـيًا مرةً وافتراقًا مرات.
يبدأُ المشهد منذ المطالع: من نشأَة الموارنة في وادي العاصي (كما يحدِّدها كمال الصليبي)، بخصوصيةٍ فريدةٍ أَن تأْخذ اسمها من راهب، ونشأَة التشيُّع منذ وفاة الخليفة الراشدي عثمان بن عفان (656م) وبلوغ أَوجِهِ مع الفاطميين وذكْر محمد علي مكي انتشارَه في جبل عامل. وتكُون بين “الجبلَين” عصبيَّتان، وحَّدَتْهما “دولةُ لبنان الكبير” ولم تصهَرْهما، لأَن النظام الطائفي في لبنان ترك مُنْفَسَحًا لنمو الجماعات الطائفية والمذهبية في استقلال إِحاديّ. هكذا شدَّد المؤَرخون الموارنة على خصوصية جبل لبنان إِبان السلطنة العثمانية، فيما شدَّد المؤَرخون الشيعة على العصيان التاريخي حيال السلطات الحليفة.
ومقابل تَشَدُّد الموارنة بعراقة جبل لبنان ساميًّا وفينيقيًّا (“الجبل الأَبيض”)، تشدَّدَ الشيعة بتسمية “جبلهم” على اسم قبيلة “عاملة” العربية اليمنية، فأَصَّلوا الجبل عربيًّا. وهنا الافتراق في رمزية الهوية.
بهذه الدقَّة سار أَنطوان سلامة كرونولوجيًّا في تَدَرُّج كتابه مع محطات كبرى من تاريخ لبنان، وسيطِه والحديث، تَوَقُّفًا عند القدْس إِبان الحملات الصليبية، ما عانى الشيعة من نكسات وما عاين الموارنة من انقلابات، وما كان للموارنة والشيعة من حالات إِبَّان حُكْم بشير الشهابي، ثم ما حصل من فواجع إِبَّان عهد القائمقاميتين، ومن مجاعة حادَّة إِبَّان سنوات المتصرفية، ومن افتراق في وجهة الانتماء بين الموارنة والشيعة مع تثبيت “دولة لبنان الكبير”، تَواصُلًا مع عهد الاستقلال، بلوغًا إِلى ما طفَحَ على سطح الأَحداث مع حرب 1975 وما جرى خلالها من مآسٍ عمَّقَت الجرح والفوارق.
لن أَتبسَّطَ أَكثر، كي أَتركَ للقرَّاء متعة أَن يَسيروا مع صفحات أَنطوان سلامة في هذا الكتاب/المرجع الذي يَجْمُلُ أَن يكون في مكتبةِ كلِّ مؤَرخٍ وأَكاديميٍّ ومثقَّف، لا بما فيه من مادة غنيَّة وحسْب، بل لِما برَعَ به المؤَلِّف من سلاسة السرد ونَسْج الأَحداث التاريخية بوضوحٍ عذبٍ يجعل قراءته إِطلالة ضرورية لفهْم حقبات تأْسيسية من تاريخ لبنان.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).