من المستشفى إِلى المسرح إِلى المستشفى
هنري زغيب*
يوم هاتَفْتُهُ كي أَستفسرَ عن عرْضِه “المجنون” مستعادًا في جبيل (الجمعة 19 أَيلول/سبتمبر الحالي) ضمن دورةٍ أُولى لمهرجان “صدى المسرح” (تنظيم “جمعية مسرح الغد” في “عشّ العصافير” = معمل حرير تابع لـ”ميتم الأَرمن” في جبيل)، تراءى لي في صوته بعضُ الوهن. لم ينتظِرْني أَسأَلُهُ. رَمَقَني بــ”أَنا في المستشفى”. وكأَنما في سكوتي لثوانٍ رأَى سؤَاليَ التلقائي، رَشَقَني قبل أَن أَسال: “لكنني ذاهبٌ إِلى المسرح… الناس في جبيل اشتروا البطاقات، وينتظرون العرض الليلة”.
بأَيِّ كلامٍ أُواجهُ فنانًا مبْدعًا بهذه الرؤْية، ولا أَتذكَّر أَنَّ موليير، أَثناء تقديم مسرحيته الرابعة “مدرسة النساء”، وذات ليلة من آذار/مارس 1664 قبيل رفع الستارة، جاء مَن يُبْلِغُه وفاة طفله البكر لويس (10 أَشهر) بعد شهر تمامًا من اعتمادِه، وكان عرَّابُه الملك لويس الرابع عشر وعرَّابته هنريات ملكة إِنكلترا. وفي سيرة موليير، يُجمِع معظم كاتبيها أَنَّ موليير، في ذاك العرض، تفَجَّر كوميديًّا أَمام جمهور ضحكَ طويلًا وهو لا يدري أَنَّ هذا الممثلَ الفَذَّ الذي يُضْحكُه ليلتئذٍ فوق العادة، كان يبكي في قلبه متفجِّعًا بصمتٍ على وفاة طفله.
أَعود إِلى الحبيب رفعت: قرَّر الخروجَ من المستشفى فَمَنَعَهُ الأَطباء. أَصرَّ فأَصرُّوا. وعند إِلحاحه الصارم النهائي اللارجوعَ عنه، أَرغموه على توقيع وثيقةٍ طبيةٍ بأَنه يغادر المستشفى على مسؤُوليته لأَن علاجه لم يُخْتم بعد. وهكذا كان: وقَّعَ وخرجَ، وذهب إِلى جبيل مع زوجته ندى التي كانت على هلعٍ من هذه المغامرة العنيدة.
صباحَ اليوم التالي هاتَفْتُهُ. ما سمعَ صوتي حتى بادرني ولم أَسأَلْهُ: “نعم. ذهبتُ وأَدَّيتُ الدور كالعادة”. ولأَنني أَعرف الطاقة الجسدية التي يستلزمها أَداء دور “هاملت”، تخَرسَنَتْ أَسئلتي إِلَّا واحدًا أَفْلَتَ مني: “تَعبْتَ”؟ أَجاب بنبرةٍ أَطلَّ منها وهنُ المرض: “تعبْتُ لكنني أَكملتُ حتى النهاية”. وأَردَف كي لا أَسأَلَهُ: “وهاني عدتُ إِلى المستشفى ليلًا بعد العرض، كي أُكمِل العلاج”.
تَخَرسَنْتُ من جديد. وصافحتُ عنادَه الإِبداعيَّ ورسالتَه الفنيةَ وتَكَرُّسَه للمسرح، ولو على حساب صحته، وخطرِ أَدائه دورًا مُعَقَّدًا إِبَّان علاج مُعَقَّد.
أَيُّ قدَر ميثولوجيٍّ إِغريقيٍّ يترصَّد هذه المسرحية؟ في 17 تشرين الأَول/أُكتوبر 2019 قدَّمها رفعت ليلةَ الافتتاح، بنصٍ اقتَبَسَهُ جيرار أَفيديسيان من “هاملت” شكسبير، كَبْسَلَهُ من 25 ممثلًا إِلى ممثلٍ وحيد، وأَخرجَهُ دون خيانة الرؤْية الشكسبيرية، ناسجًا إِياه من لحظات هاملت الأَخيرة، وأَلبَسه جنونًا جامحًا في مخيِّلته، وهَلْوَساتٍ فاجعةً يُشعلها حوله شبَح والده. ليلتَها كانت كاميراتُ التلفزيون تتهيأُ للقطاتٍ من أَداء رفعت، لكنها انسحبَت بسرعة إِلى وسط بيروت: اندلعت احتجاجات الثورة.
أَيُّ قدَر يترصَّد هذه المسرحية، حتى أَن تقديمها في جبيل كان في الدير الأَرمنيِّ ذاته الذي كانَ لجأَ إِليه والدُ جيرار أَفيديسيان يومَ هرَب من المجازر الأَرمنية!
بعد حفنةِ سنوات تُوُفي جيرار أَفيديسيان (2023). لكن رفعت الوفيّ حافظ على العمل مُضْمرًا تقديمه، وعاد فقدَّمَه لأُسبوعٍ في آذار/مارس الماضي على مسرح “بيريت” بلمسات لينا أَبيض الإِخراجية. وحين أُتيح له، نهار الجمعة الماضي، أَن يقدِّمه مجدَّدًا، خلَع عنه بيجاما المستشفى، ارتدى ثياب “المجنون” وإخراجَ لينا أَبيض، وهرع إِلى جبيل تاركًا سريره في غرفة المستشفى فارغًا كي يعودَ إِليه ليلًا بعد العرض.
بعضُ الأَعمال المسرحية لها في الكواليس ما هو أَبلغُ من فضاء الخشبة. و”مجنون” رفعت طربيه له كواليسُه الغريبة.
يصدَرُ اليوم هذا المقال في “النهار” و”أسواق العرب”، والحبيب رفعت ما زال في المستشفى، أَو غادرَه ليُكْمل العلاجَ في البيت. فليس لسريره موقعٌ في المكان، لأَن رفعت جعلَ المكانَ مقدَّسًا في قلبه وضميره. وغدًا، يحملُ هُو المكان، ويفتَرشُهُ خشبةً مباركةً يقدِّمُ عليها عملَهُ الجديد.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت)