المخابراتُ الأميركية بينَ التسييسِ والصراعاتِ الداخلية: قراءةٌ في حقبةِ ترامب
تُعتَبَرُ أجهزة الاستخبارات الأميركية من أقوى وكالات الاستخبارات في العالم وأكثرها تأثيرًا، إلّا أنها لم تَسْلم عبر تاريخها من الصراعات الداخلية والتجاذبات السياسية، وخصوصًا حين يتصادم عملها المهني مع خيارات الرؤساء.

السفير يوسف صدقه*
تُعَدّ أجهزة الاستخبارات الأميركية من أقوى المنظومات الاستخباراتية في العالم وأكثرها تأثيرًا، فقد شكّلت منذ الحرب العالمية الثانية أداةً أساسية في صياغة القرارات الكبرى للبيت الأبيض ورَسمِ استراتيجيات الأمن القومي الأميركي. هذه المنظومة المُعقّدة تضمُّ أكثر من سبعة عشر وكالة وهيئة، من أبرزها وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، وكالة الأمن القومي (NSA)، مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، وغيرها من الوكالات التي تعمل بتنسيق متفاوت في ما بينها. إلّا أنّ هذا التعدُّد لا يعني دائمًا الانسجام، بل كثيرًا ما يفتحُ البابَ أمامَ تنافُسٍ وصراعاتٍ بيروقراطية، تتأثر بالضرورة بتوجّهات الإدارة السياسية الحاكمة.
عبر التاريخ الأميركي، لم تَسْلَم أجهزةُ الاستخبارات الأميركية من الانتقادات والاتهامات، سواء في ما يتعلق بالإخفاقات في التنبّؤ بالأحداث الكبرى مثل هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، أو في توريط الولايات المتحدة في مغامراتٍ خارجية مثل حرب فيتنام وغزو العراق. غير أنّ عهد الرئيس دونالد ترامب شكّلَ حالةً فريدة؛ إذ بلغ التوتر بين البيت الأبيض والمجتمع الاستخباراتي ذروته، وظهرت بوضوح معالم تسييس الأجهزة الأمنية وتحويلها من أدواتٍ مهنية إلى منصّاتٍ لخدمة أجندة سياسية ضيّقة.
طبيعة العمل الاستخباراتي وحدوده
يقومُ العمل الاستخباراتي على جَمعِ وتحليل المعلومات من مصادر بشرية وتقنية وإلكترونية، من أجلِ تقديمِ صورةٍ دقيقة لصانع القرار السياسي والعسكري. ويمتدُّ نطاقُ هذا العمل من التنبُّؤ بالتهديدات الإرهابية إلى متابعة التحوُّلات الجيوسياسية وتطورات التكنولوجيا والاقتصاد العالمي. إلّا أنّ العملية ليست سهلة، فهي تعتمدُ على معطياتٍ ناقصة في الغالب، وعلى اجتهاداتٍ تحليلية قد تُخطئ أو تُصيب.
من الناحية القانونية، يجري التمييز في الولايات المتحدة بين العمليات التي تُدار تحت ما يُعرف بـ “Title 50″، وهي تلك التي تُنفّذها وكالة الاستخبارات المركزية وتشمل العمل السري والديبلوماسي، وبين العمليات التي تُنفَّذ تحت “Title 10″ الخاضعة للبنتاغون، وتشملُ التحرّكات العسكرية المباشرة. هذا الفصل يوفّر نظريًا وضوحًا في الصلاحيات، لكنه في الممارسة العملية يؤدّي إلى تضارُبٍ بين المؤسّستَين، خصوصًا عندما تتعلق المهمة بمكافحة الإرهاب أو الحروب غير النظامية، حيث يصعبُ الفصلُ بين ما هو عسكري وما هو استخباراتي.
التاريخُ الأميركي مليءٌ بأمثلةٍ عن إخفاقات الأجهزة. ففي حرب فيتنام، فضّلَ الرئيس ليندون جونسون تقارير البنتاغون المتفائلة على تقديرات الـ”سي آي إي” التي كانت أكثر تشاؤمًا، ما أدّى إلى استمرار الحرب وتصعيدها. وفي العام 2003، بالغت إدارة جورج بوش( الإبن) في تصوير خطر أسلحة الدمار الشامل في العراق، رُغمَ تحفّظات عددٍ من المحللين، ما أدى إلى غزوٍ مُكلِفٍ فقدت معه الاستخبارات مصداقيتها أمام العالم.
ترامب والمجتمع الاستخباراتي
منذ حملته الانتخابية في العام 2016، أبدى ترامب شكوكًا عميقة في أجهزة الاستخبارات، مُتَّهمًا إياها بدعمِ خصومه وحتى التآمر ضده. وبعد وصوله إلى السلطة، تجسّدَ هذا الموقف في ممارسات عدة: إهمال الإحاطات الاستخباراتية اليومية، التشكيك في نزاهة تقارير وكالات كبرى، والاعتماد المفرط على غرائزه وانطباعاته الشخصية.
أخطر ما واجهته أجهزة الإستخبارات في عهد ترامب كان تسييس عملها. إذ غالبًا ما طالب البيت الأبيض المحللين بتعديل تقاريرهم لتتوافق مع الموقف السياسي. في ملف إيران النووي مثلًا، تجاهل ترامب شهادة مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد أمام الكونغرس بأنَّ طهران ليست قريبة من إنتاج سلاح نووي، وأمَرَ بضرب مواقع إيرانية، ثم بالغ في وصف نتائج الضربة على نحو يتناقض مع تقديرات وكالة استخبارات الدفاع.
إلى جانب ذلك، شهدت المؤسسات الاستخباراتية موجةً من التغييرات الإدارية، حيث أُقيل مسؤولون بارزون واستُبدلوا بموالين يفتقر كثير منهم إلى الخبرة. فمثلًا، تم تعيين شاب حديث التخرُّج بلا أيِّ خبرةٍ أمنية على رأس وحدة مكافحة الإرهاب في وزارة الأمن الداخلي. هذه التعيينات عزّزت المخاوف من أن يُصبحَ الولاءُ الشخصي معيارًا يتقدّمُ على الكفاءة والخبرة.
هذه الممارسات أدت إلى تراجُعِ ثقة الموظفين المهنيين وشيوع الرقابة الذاتية، حيث أصبح المحللون يتردّدون في تقديم تقديرات قد تُغضب القيادة السياسية. وهكذا تحوّلت الأجهزة من منصّاتٍ مهنية لتزويد الرئيس بالمعلومات إلى أدواتٍ لتبرير قراراته المُسبَقة.
صراع الـ”سي آي إي” والبنتاغون
منذ تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية في أواخر الأربعينيات، ارتَسَمَ خطٌّ تنافسي مع البنتاغون حولَ مَن يمتلك اليد العليا في صياغة القرارات الأمنية. فال”سي آي إي” تميلُ إلى المقاربة الاستراتيجية طويلة الأمد، مع تركيزٍ على التحليل السياسي والعلاقات مع القوى الاقتصادية الكبرى. أما البنتاغون، فيميلُ إلى الحلول الميدانية المباشرة عبر نشر القوات واستخدام القوة الصلبة.
شهدت العلاقة بين المؤسّستَين محطّاتٍ بارزة من التوتر. ففي الصومال والبوسنة وهايتي في التسعينيات، اعتمد الرئيس بوش (الابن) على تقديرات البنتاغون أكثر من تقارير ال”سي آي إي”، ما جعل الأخيرة تُحصَرُ في أدوارٍ ثانوية. أما خلال ولاية باراك أوباما، فقد أغلق البيت الأبيض السجون السرية التابعة للـ”سي آي إي”، لكنه أجاز استخدام الطائرات المسيّرة بشكلٍ واسع في اليمن وباكستان، ما أعاد للوكالة دورًا عملياتيًا مهمًا.
بلغ التنافس ذروته في الملف السوري في العام 2016، حين اندلعت اشتباكات بين فصائل مدعومة من الـ”سي آي إي” وأخرى مدعومة من البنتاغون، في مشهدٍ عبّرَ عن انقسامٍ حاد في المقاربة الأميركية. هذا النوع من التضارب يُضعِفُ صورة واشنطن كقوة عظمى مُوَحَّدة، ويعطي خصومها فرصًا لاستغلال التناقضات.
العلاقة مع الحلفاء والخصوم
تأثرت علاقات الولايات المتحدة بحلفائها بشكل مباشر نتيجة تسييس الاستخبارات. فبعد أزمة أسلحة الدمار الشامل في العراق، تراجعت ثقة الأوروبيين في التقديرات الأميركية. ومع وصول ترامب، تعزّزت هذه الشكوك، خصوصًا مع مبالغاته في قضايا إيران وكوريا الشمالية.
الحلفاء الذين كانوا يعتمدون على المعلومات الأميركية لتنسيق استراتيجياتهم الأمنية، بدَؤوا يتردّدون في مشاركة بياناتٍ حسّاسة خوفًا من أن تُستَغَلَ سياسيًا أو تُشَوَّه. أما الخصوم، فقد وجدوا في هذا الوضع ثغرات يمكن استغلالها للتشكيك في وحدة الصف الغربي. وبذلك، انعكسَ الاضطرابُ الداخلي في واشنطن على المشهد الدولي بأسره.
في الداخل، ساهم خطاب ترامب عن “الدولة العميقة” في إضعافِ شرعية أجهزة الاستخبارات، وجعل قطاعات من الرأي العام ترى فيها مؤسّسات مُنحازة ضد الرئيس والشعب. هذا الخطاب أفقدَ الأجهزة جُزءًا من قدرتها على الحصول على تعاون المواطنين، وهو عنصر جوهري في أيِّ عملٍ أمني فعّال.
الشرق الأوسط كمرآة للخلافات
انعكست الخلافات الداخلية على سياسات واشنطن في الشرق الأوسط. فانسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني في العام 2018 تمَّ من دون استشارةٍ مُعمَّقة مع الأجهزة، وأدّى إلى تصاعد التوتر في الخليج والعراق. كما إنّ قراراته بشأن الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل في العام 2017 وبسيادة إسرائيل على الجولان في العام 2019 جاءت بدون التنسيق مع وزارة الخارجية أو الاستخبارات، ما كشف عن تهميش المؤسسات التقليدية لصالح القرار الفردي.
هذه السياسات المتقلّبة أرسلت إشاراتٍ متناقضة إلى الحلفاء في الخليج وإسرائيل، وإلى الأكراد الذين وجدوا أنفسهم أمام انسحاباتٍ أميركية مفاجئة من سوريا. كما أعطت خصوم واشنطن، مثل إيران، فرصةً لاستثمار التخبُّط الأميركي وتعزيز نفوذها الإقليمي. وبذلك، تحوّلت المنطقة إلى ساحة اختبار لتأثير الصراعات داخل واشنطن على استقرار العالم.
المخاطر المستقبلية
إنَّ تسييسَ الأجهزة الاستخباراتية يُهدّدُ بفقدان الولايات المتحدة قدرتها على التنبؤ الدقيق بالأحداث العالمية. فقد فقدت المؤسّسات بالفعل عددًا من الكفاءات بسبب الإقالات والتطهير السياسي. كما إنّ تقليصَ التنوُّع داخل الأجهزة يُفقدها القدرة على فَهمِ البيئات المتعددة والمعقَّدة، خصوصًا في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا.
إذا استمرَّ المحلّلون في ممارسة الرقابة الذاتية خشية إغضاب القيادة السياسية، فإنَّ ذلك يعني أنَّ التقارير الأكثر أهمية قد لا ترى النور أصلًا. وهذا يفتح الباب أمام إخفاقاتٍ مشابهة لتجاهل التحذيرات من جائحة “كوفيد-19 أو تصاعد العنف القومي الأبيض قبل أحداث مبنى الكابيتول في واشنطن في كانون الثاني (يناير) 2021.
على المدى البعيد، فإنَّ استمرارَ هذا المسار قد يؤدي إلى تراجع مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى، إذ إن قوتها لا تقوم فقط على اقتصادها وجيشها، بل أيضًا على تفوُّقها الاستخباراتي وقدرتها على بناء تحالفات قائمة على الثقة. وإذا فقدت واشنطن هذه الميزة، فإنَّ النظام الدولي برمّته سيدخل مرحلةً جديدة من عدم الاستقرار.
تكشفُ تجربة عهد ترامب عن هشاشة العلاقة بين السياسة والاستخبارات في الولايات المتحدة. فعندما تُستخدَمُ الأجهزة كأداةٍ سياسية لتبرير القرارات بدلًا من أن تكونَ وسيلةً لفهم الواقع، يصبح الأمن القومي أكثر عُرضةً للأخطار. إنَّ الحفاظ على استقلالية الأجهزة وضمان مهنيتها لا يمثل فقط مصلحة داخلية، بل شرطًا أساسيًا للحفاظ على ثقة الحلفاء واستقرار النظام الدولي.
لذلك، فإن الدرس الأهم من السنوات الماضية هو أنَّ الولاء لا يمكن أن يكون بديلًا من الخبرة، وأن الحقائق، مهما كانت غير مريحة، تظل أساسًا لأيِّ قرارٍ رشيد. مستقبل الاستخبارات الأميركية سيُحسم بقدرتها على مقاومة الضغوط السياسية واستعادة ثقة الرأي العام والحلفاء، وهو ما سيحدد ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بفاعلية أم لا.
* السفير يوسف صدقه هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.