من ثرواتِ الغاز إلى مركزٍ للتكنولوجيا المالية: التحوُّلُ الكبير في قطر

كابي طبراني*

شهدت دولة قطر خلال العقدَين الماضيَين تحوّلًا نوعيًّا جعلها إحدى أكثر المراكز المالية حيويةً في منطقة الخليج. ورُغمَ أنَّ احتياطاتها الهائلة من الغاز الطبيعي ما زالت تُمثّلُ الدعامةَ الأساسية لاقتصادها، فإنَّها أطلقت استراتيجيةً استشرافيةً طموحةً تقومُ على التنويع والرقمنة والاستدامة تَرسُمُ وتُشكّلُ من خلالها ملامحَ النظام المالي المستقبلي للإمارة. ومن خلال الجَمعِ بين الرقابة التنظيمية الصارمة، والتبنّي السريع للتقنيات الرقمية، والابتكار في مجال التمويل الإسلامي، تُرَسّخُ قطر مكانتها كرائدةٍ إقليمية ولاعبةٍ عالمية في المشهدِ المالي المُتَغيِّر والمُتَطَوِّر.

يُعَدُّ القطاعُ المصرفي القطري من بين الأقوى والأكثر رسملةً ورسوخًا وأمانًا في منطقة الخليج، إذ أثبتَ قدرته على الصمود أمام تحدّياتٍ جسيمة، بدءًا من جائحة “كوفيد-19” وصولًا إلى تقلُّباتِ أسواق الطاقة العالمية، مع الاستمرارِ في تسجيلِ نموٍّ قوي في الائتمان والأرباح. وتُجسّدُ مؤسّساتٌ مثل بنك قطر الوطني، الذي يُصنَّفُ ضمنَ أكبر خمسين بنكًا في العالم من حيث القيمة السوقية، حجمَ هذا القطاع ومتانته. ويقف مصرف قطر المركزي في قلب هذه المنظومة، إذ يضطلع منذ العام 1993 بمسؤوليةِ الحفاظِ على الاستقرارِ النقدي وتنظيمِ عمليات الترخيص. وتتجاوزُ أنظمة المصرف المعايير الدولية، حيث يَفرضُ نسبَ كفايةٍ رأسمالية أعلى مما نصّت عليه اتفاقيات “بازل 3”. وبحلول العام 2025، كانت البنوك المحلّية تتمتّعُ برسملةٍ قوية للغاية، إذ تجاوزت نسبُ كفايةِ رأس المال لدى بعضها 20%، وهو ما وَفّرَ حمايةً ضد الصدمات وعزّزَ ثقة المستثمرين. كما أسهم الدَعمُ السيادي للبنوك، عبر مؤسّساتٍ مثل جهاز قطر للاستثمار وصناديق التقاعد، في ترسيخِ الاستقرار وضمان السيولة في المدى الطويل. وإلى جانب ذلك، أضافَ انخراط البنوك الأجنبية، فضلًا عن الدور المتنامي لمركز قطر المالي ببيئته الجاذبة للاستثمار وامتداده الدولي، بُعدًا آخر للبصمة المالية للإمارة الخليجية.

إلى جانب الخدمات المصرفية التقليدية، شهدَ التمويل الإسلامي نموًّا مطردًا وملحوظًا، إذ أصبحَ يُمثّلُ نحو ربع أصول البنوك المحلية. ويكتسبُ هذا القطاع أهمّيةً مُتزايدة مع التوجُّهِ العالمي نحو تبنّي معايير البيئة والمجتمع والحَوكَمة. ويأتي تطويرُ الصكوك الخضراء – وهي سنداتٌ مُتوافِقة مع أحكام الشريعة الإسلامية ومُوَجَّهة لتمويلِ المشاريع المُستدامة– في طليعةِ هذا التحوُّل. وقد اتَّخذَت قطر خطواتٍ جريئة وبارزة في هذا المجال، بدءًا من إصدارها أوَّل صكٍّ أخضر في العام 2020، وصولًا إلى إصدارِ مصرف قطر الإسلامي الدولي صكوكًا خضراء بقيمة 500 مليون دولار في العام 2024، والذي لاقى إقبالًا كبيرًا حيث تجاوز الاكتتاب فيه ثمانية أضعاف، مما يؤكّدُ الإقبالَ الدولي على هذه المنتجات. وتُعَدُّ هذه الأدوات المالية وسيلةً مُزدَوجة تُحقّقُ الامتثالَ لأحكام الشريعة وتدعَمُ في الوقت ذاته مشاريع الطاقة المُتجدّدة والنقل النظيف والمبادرات البيئية.

ويأتي هذا التوجُّه في إطارٍ تنظيمي متكامل. ففي الاستراتيجية الثالثة للقطاع المالي للفترة من 2024 إلى 2030، وضعت قطر أولويات الاستدامة في صميم تطوير أسواق رأس المال، مع التركيز على ابتكار الصكوك وتوسيع أسواق الدين. ويتّسِقُ هذا التوجُّه مع رؤية قطر الوطنية 2030 التي تجعلُ من الاستدامة البيئية ركنًا أساسيًا. ومع تخصيصِ نحو 75 مليار دولار للاستثمارات الخضراء، تؤكد الدولة أنَّ التمويلَ المُستدام يُشكّلُ محورًا رئيسًا في نموذجها التنموي. وتُشيرُ تقديرات وكالة “فيتش” إلى أنَّ حجمَ إصدار الصكوك المُرتَبطة بالمعايير البيئية والاجتماعية وحَوكمة الشركات العالمية قد يتجاوز 50 مليار دولار بحلول نهاية العام 2025، ما يضعُ قطر في موقعٍ يؤهّلها للريادة الإقليمية في هذا المجال الناشئ، الذي يجمعُ بين تقاليد التمويل الإسلامي ومتطلّبات الاستدامة العالمية.

ولعلَّ التطوّرَ الأكثر تحوُّلًا في المشهد المالي القطري هو احتضانُ الابتكارِ الرقمي. فقد بلغَ مُعدّلُ انتشارِ الإنترنت في الإمارة 99% في العام 2024، وأصبحَ الاستخدامُ شبهَ شاملٍ للخدمات المصرفية الرقمية، في حين بلغت نسبة المدفوعات عبر تقنية الدفع اللاتلامُسي في المتاجر 96%. هذه المؤشّرات تَعكسُ جاهزيةً عالية للريادة في مجال التكنولوجيا المالية. ويأتي مركز قطر للتكنولوجيا المالية، الذي أُطلِقَ في العام 2019 بدَعمٍ من مصرف قطر المركزي ومركز قطر للمال، ليُجَسِّد هذا الطموح، حيث احتضنَ أكثر من 60 شركة ناشئة تجاوزت قيمتها الإجمالية 400 مليون دولار، ما يجعله من أبرز منصّات الاستثمار في التكنولوجيا المالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتشملُ مجالات الابتكار المحافظ الرقمية، ومنصّات الدفع الإلكترونية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي لتقييم الجدارة الائتمانية وكشف الاحتيال وخدمة العملاء.

يعكسُ تبنّي الذكاء الاصطناعي الاستراتيجية الوطنية الأوسع للذكاء الاصطناعي التي أُطلِقَت في العام 2019، والتي تسعى إلى دَمجِ ممارسات الذكاء الاصطناعي الأخلاقية في مختلفِ القطاعات. في قطاع الخدمات المالية، يُسهِمُ الذكاءُ الاصطناعي الآن في النماذج التنبُّؤية، وإعداد التقارير التنظيمية، وأتمتة العمليات الروبوتية، مما يُحسّنُ الكفاءة ويُخفّضُ التكاليف. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2024، طُبّقَ إصلاحٌ تنظيمي بارز، حيث أطلقَ البنك المركزي إطارَ عملٍ للبنوك الرقمية فقط. ويتعيّن على هذه المؤسسات المالية، التي تعمل حصريًا عبر الإنترنت، أن يكونَ مقرّها الرئيس في قطر، وأن يكونَ معظم أعضاء مجالس إدارتها مُقيمًا في البلاد. ويُتَوَقَّعُ أن يُسهِمَ هذا القرار في تعزيزِ وصول الشركات الصغيرة والمتوسّطة إلى الخدمات المصرفية، فضلًا عن تطويرِ منتجاتٍ مصرفية إسلامية رقمية، ما يضعُ قطر في طليعةِ تنظيم العمل المصرفي الرقمي.

مع ذلك، لا يخلو هذا التحوُّلُ المالي من التحدّيات. فتقلُّبُ أسعار الفائدة العالمية، والتعرّضُ للقطاع العقاري، والاعتمادُ على التمويل الأجنبي، لا تزال كلها تُشكل مخاطر رئيسة. إلّا أنَّ رأس المال القوي (الرسملة)، والدعمَ السيادي، وتنويع الأصول من شأنها أن تُخفّفَ من حدّة هذه المخاطر. وفي المقابل، تُتيحُ الشراكات الدولية، وتنامي الطلب على أدوات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسّسية (التمويل المُستدام)، والتحوُّل الرقمي السريع، آفاقًا واسعة للنمو. وتُجَسّدُ الاستراتيجية الثالثة للقطاع المالي هذه الرؤية، من خلالِ التركيز على المرونة والابتكار والاستدامة والتكامُل الدولي. وتُشكل ركائزها -التي تشمل القطاع المصرفي، والتأمين، وأسواق رأس المال، والأنظمة الرقمية- خارطةَ طريقٍ لتحويل النظامِ المالي القطري إلى نموذجٍ عالمي.

وفي هذا السياق، يُشكّلُ التمويلُ الإسلامي الأخضر جسرًا يربطُ بين تقاليد قطر واحتياجات المستقبل في مجال الاستدامة، فيما يُعزّزُ قطاع التكنولوجيا المالية موقع الدولة في صدارة التحوُّل الرقمي إقليميًا. وبهذا يضمنُ القطاع المالي أن يكونَ ليس فقط ركيزةً للصمود، وإنما أيضًا مُحرِّكًا للتنويع الاقتصادي الوطني طويل الأجل وفق رؤية قطر الوطنية 2030.

إنَّ ثروة قطر من الغاز الطبيعي ورسملة مصارفها الكبيرة أكسبتها مكانةً عالميةً مرموقة. غير أنَّ الإنجازَ الأهم يتمثّلُ في كيفية استعدادها للمستقبل عبر الابتكار في التمويل الإسلامي الأخضر، واعتماد الخدمات المصرفية الرقمية، ومُواءَمة التشريعات التنظيمية مع متطلّبات الاستدامة والتكنولوجيا. وبينما يواجه العالم تحدّيات التغيُّر المناخي والتحوّلات الرقمية وعدم اليقين الاقتصادي، تعملُ قطر على صياغةِ نظامٍ ماليٍّ قادرٍ على الصمود أمام الصدمات، بل وعلى تقديمِ نموذجٍ يُحتذى به. وبهذا تؤسّسُ الدولة لنهجٍ يُظهِرُ كيفَ يُمكِنُ للدول الغنية بالموارد أن تستثمرَ ثرواتها وأُطُرُها التنظيمية وابتكاراتها لبناءِ مستقبلٍ اقتصاديٍّ مُستدام ومُتَنَوِّع.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى