إيران السيبرانية قد تُصبحُ أخطرَ من إيران النووية!

كابي طبراني*

بينما انشَغلت العناوين العالمية بصواريخ إيران وإسرائيل، وبمنطِقِ الرَدعِ والتصعيد، مرّت ساحةٌ أخرى من الحرب الأخيرة –التي امتدت بين 13 و24 حزيران (يونيو) الفائت– من دونِ ضجيج كبير: الفضاء السيبراني. غيرَ أنَّ ما جرى في الخفاء لا يقلُّ أهمّية، إذ أظهرَ أنَّ طهران بدأت تتعامَلُ مع أدواتِ الفضاء الرقمي باعتبارها جُزءًا أصيلًا من عقيدتها الحربية، وليست مُجرَّدَ أنشطة ثانوية أو رمزية. فمن اختراقِ كاميرات المُراقَبة داخل إسرائيل، إلى استخدامِ الذكاءِ الاصطناعي لنشرِ أخبارٍ وصورٍ مُفَبرَكة بالتزامن مع الضربات الصاروخية، وصولًا إلى قطع الإنترنت داخل إيران نفسها، بدا أنَّ النظامَ الإيراني يَدمُجُ اليوم بين الحربِ السيبرانية والحربِ التقليدية، في مشهدٍ يعكسُ تطوُّرًا لافتًا في طريقةِ تفكيره الاستراتيجي.

لكن من الخطَإِ الاعتقادِ بأنَّ هذا التطوُّرَ يعني تفوُّقًا تقنيًا. الواقع أنَّ البُنيةَ التحتية الرقمية الإيرانية هشّةٌ للغاية، وشهدَت اختراقاتٍ كبيرة خلال الحرب نفسها. مع ذلك، يبقى المهم هنا هو إدراكُ النوايا: إيران تُريدُ أن تجعل من الفضاء السيبراني ذراعًا رئيسة في ما تُسمّيه “الحرب الهجينة”، حيث تذوب الحدود بين العمل العسكري والإعلامي والسياسي.

في الحربِ التي استمرّت 12 يومًا، ظهرَ جَليًّا أنَّ طهران لا تكتفي بعملياتِ اختراقٍ معزولة. بل أطلقت حملةً متكاملة: هجماتٌ إلكترونية رمزية على منصّات أميركية، بينها إيقاف مؤقت لمنصة الرئيس دونالد ترامب “تروث سوشال”، حملاتُ تضليلٍ إعلامي مدعومةً بالذكاء الاصطناعي تستهدفُ معنويات الإسرائيليين، مُحاولات تجسُّس ميداني عبر السيطرة على كاميراتٍ مَدَنيّة للحصول على صورٍ آنية لمواقع القصف، إلى جانبِ اختراقاتٍ في دول ثالثة مثل ألبانيا، ورسائل ردعية إلى الخارج. أما في الداخل، فقد فرضت الحكومة انقطاعات واسعة للإنترنت، لتقييد تدفّق المعلومات ومنع الرأي العام من الاطلاع على حجم الخسائر أو متابعة روايات بديلة.

هذه الممارسات تكشف عن وَعيٍ جديد لدى القيادة الإيرانية: أنَّ السيطرة على المعلومات لا تقلُّ أهمّية عن إطلاق الصواريخ. وهي رسالةٌ موجَّهة للداخل والخارج معًا، لكنها في الوقت نفسه تكشفُ التناقضَ العميق الذي تعيشه إيران. ففي حين يفاخر المسؤولون بقدرات بلادهم في التصدّي للهجمات، يقرُّ خبراءٌ إيرانيون بأنَّ الشبكة الداخلية مثقوبة يوميًا بعشرات آلاف الاختراقات، وأنَّ السياسات الرسمية –من حَجبِ مواقع إلى الاعتماد على برامج مُقلّدة– هي السبب في هشاشة البنية الرقمية.

إيران إذن تتحرّك في فضاء مزدوج: تُطلقُ عملياتٍ هجومية مُتزامنة ومُنسَّقة بشكلٍ غير مسبوق، لكن دفاعاتها نفسها ضعيفة. هذا التناقُضُ لا يُقلّلُ من أهمية التطوُّر العقائدي. فالتغيُّر الحقيقي ليس في نوعية الأدوات، بل في طريقة استخدامها. إيران انتقلت من اختراقاتٍ رمزية إلى حملاتٍ متواصلة تسعى إلى التأثيرِ النفسي، وجَمعِ معلوماتٍ عسكرية، ورَدعِ خصومٍ خارجيين، وقَمعِ الداخل. إنها لم تَعُد ترى في الفضاء السيبراني مجرّد “مُلحَق” للعمليات العسكرية، بل ركيزة مُوازية لها.

ومع أنَّ مستوى التعقيد التقني ظلَّ محدودًا، كما ظهرَ في حملاتِ إغراقِ المواقع أو الرسائل المُلفَّقة، فإنَّ الجديدَ هو التزامن: إطلاقُ الشائعات الاصطناعية مع الضربات الصاروخية، قطعُ الإنترنت مع اشتدادِ الغارات، استغلالُ كاميراتٍ مدنية في لحظاتٍ حرجة. هذا الانسجامُ بين الحرب التقليدية والسيبرانية يعكسُ تخطيطًا أكثر مركزية، وأقرب إلى ما نشهده عند قوى مثل روسيا.

غيرَ أنَّ الحرب كشفت أيضًا عن الفارق الشاسع في القدرات بين إسرائيل وإيران. ففي الوقت الذي أغرقت طهران شبكاتٍ تجارية إسرائيلية بهجماتٍ سطحية، نجحت مجموعاتٌ قريبة من إسرائيل مثل “بريداتوري سبارو” في شلّ بنك “سَپه” الإيراني وسرقة عشرات الملايين من منصة العملات المشفّرة “نوبیتكس”. أي أنَّ طهران، رُغمَ اندفاعها، بقيت عاجزةً عن حماية أهم مؤسّساتها المالية.

الرسالة الأهم هنا هي أنَّ إيران دخلت مرحلةً جديدة: مرحلة “التفكير السيبراني” المنهجي. لكنها لم تصل بعد إلى مستوى التنفيذ الفعّال أو الدفاع الذاتي المَتين. وهذا ما يجعلها اليوم لاعبًا نشطًا في ساحة الحرب الرقمية، لكنه لاعبٌ لا يزالُ مكشوفًا.

الأبعادُ الدولية لا تقلُّ خطورةً. فإيران تقتربُ أكثر من روسيا والصين، لا فقط في صفقاتِ سلاحٍ أو طاقة، بل في تبنّي نهجٍ مُشترك يقوم على استخدامِ “السلاح” السيبراني لقمع الداخل، وتضليل الخارج، ومشاغلة الغرب من دون تجاوز العتبة النووية أو الدخول في حربٍ شاملة. وإذا صحّت التقارير عن انتقالِ طهران إلى استخدام نظام “بايدو” الصيني بدلًا من “جي بي أس” الأميركي لتوجيه الطائرات المُسيَّرة والصواريخ، فهذا يعني أنَّ محورًا استبداديًا آخذٌ في التشكُّل أيضًا في ميدانِ التكنولوجيا والفضاء الرقمي.

لصانعي القرار في الغرب والمنطقة، الدرسُ واضح: التهديدُ الإيراني لم يعد مقصورًا على المفاعل النووي أو الصواريخ الباليستية. إنه تهديدٌ مُرَكَّب، يجمعُ بين القمع الداخلي، والتضليل الإعلامي، والهجمات الإلكترونية، والعمليات العسكرية. التعامُلُ معه يقتضي الإدراكَ بأنَّ الحربَ المقبلة لن تدورَ فقط في سماء الخليج أو صحراء النقب، بل أيضًا على شاشاتِ الهواتف والحواسيب، حيث تُصنَعُ الروايات وتُوَجَّهُ العقول.

إيران قد لا تكون قوة عظمى في الفضاء السيبراني، لكنها باتت تمارس ما يمكن وصفه بـ”الحرب السياسية الرقمية” بوعيٍ أكبر. وهي تُدركُ أنَّ الكلفةَ مُنخفضة، والإنكارَ مُمكن، والعوائدَ السياسية والنفسية قد تفوقُ كثيرًا ما تُحقّقه الصواريخ. السؤال الآن ليس إن كانت ستُكرّرُ هذه التجربة في المواجهات المقبلة، بل متى وكيف؟

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى