لبنان بَينَ رسالةِ البابا وقَلَقِ المسيحيين: وَطَنٌ يَبحَثُ عن دولة

مايكل يونغ*

زار البابا لاوُن (ليو) الرابع عشر لبنان هذا الأسبوع، في ثالثِ زيارة لحَبرِ أعظمٍ منذ محطّة البابا يوحنا بولس الثاني في 1997 وزيارة البابا بنديكتوس السادس عشر في 2012 (مع الإشارة إلى التوقّف القصير للبابا بولس السادس في العام 1964 خلال رحلته إلى الهند). لكن ما منح الزيارة راهنيتها هو اختيار لبنان—إلى جانب تركيا—محطّةً أولى في الجولات الخارجية للبابا الجديد، في بلدٍ يحتضن أعلى نسبة من المسيحيين في العالم العربي.

من البديهي أن يرى البابا ليو في المجتمع المسيحي اللبناني جماعةً تحتاجُ إلى دعمٍ مباشر. فقد فاقم الانهيار الاقتصادي والانفجار المروّع في مرفَإِ بيروت في العام 2020—الذي دمّر مناطق ذات غالبية مسيحية—من موجة النزوح والهجرة، وأصاب المسيحيين بشكلٍ خاص نظرًا لصِغَر حجمهم وعمق حضورهم في المناطق المُتَضرّرة. وجاء ذلك على وَقعِ تراجُعٍ أوسع لأعداد المسيحيين في المنطقة خلال العقدين الماضيين، لا سيما في العراق وسوريا، نتيجة الغزو الأميركي وتداعياته ثم التحوّلات العاصفة التي أنتجتها الثورات العربية. وبذلك، لم يَعُد لبنان مجرّدَ بلدٍ آخر في الخريطة الكَنَسية، بل بات بالنسبة إلى الفاتيكان آخر مساحةٍ يُمكِنُ الدفاع فيها عن بقاء المسيحيين في الشرق وليس فقط عن حضورهم الرمزي.

لكن بعيدًا من رؤية البابا للبنان، يبقى السؤال الأهم: كيف يرى المسيحيون اللبنانيون مستقبلهم في هذا البلد؟ وما الحالة المزاجية التي قد يكون البابا قد التقط جانبًا منها خلال زيارته؟ ولو لمس هذا المزاج كما هو، لما وجد سببًا كبيرًا للطمأنينة.

لطالما أدّت الطائفة المارونية دورًا تأسيسيًا في صياغة الكيان اللبناني، منذ مرحلة الانتداب الفرنسي عقب الحرب العالمية الأولى، وصولًا إلى ميلاد دولة الاستقلال في العام 1943. ومع ذلك، يعيش المسيحيون اليوم حالة ثقة مُتراجِعة تجاه بلدهم، لأسبابٍ ترتبطُ جُزئيًا بتعمّق شعور الأقلّية في مواجهة الطائفتين الأكبر حجمًا—السُنّة والشيعة—وتحوّلات موازين القوى التي رافقت العقود الماضية.

لا يعني هذا أنّ المسيحيين مهمَّشون أو أنهم سَلّموا مسبقًا بتراجُع دورهم. فما زالت لهم، نظريًا على الأقل، نصف مواقع السلطة في الدولة: في البرلمان، وفي الحكومة، وفي الإدارات الأساسية. إلّا أنَّ مشكلتهم ليست في توزيع المقاعد، بل في الشعور المتنامي بأنَّ أيَّ مشروعٍ وطني جامع لم يعد ممكنًا، وأنَّ مشاركتهم في صياغته باتت أقرب إلى الوَهم منها إلى الواقع.

ولهذا يَميلُ جُزءٌ متزايد من المسيحيين إلى خياراتٍ تبدو أقرب إلى مشاريع “فصل” أو تموضع ذاتي، وإن بدرجاتٍ متفاوتة. وهذا المزاج ليس غريبًا في بلدٍ فَقَدَ القدرة على التوافق حول رؤيةٍ مشتركة. فمنذ العام 2011، حين انطفأت آمالُ المرحلة التي تلت الانسحاب السوري في العام 2005، وتكرّسَ نفوذُ “حزب الله” في مفاصل الحكم، شعرَ عددٌ كبيرٌ من المسيحيين بأنَّ لبنان يسلكُ طريقًا يصعب عليهم التماهي معه، وأنَّ المشروعَ الوطني الذي انخرطوا في بنائه قبل عقود أصبحَ أبعد منالًا ممّا كان في أيِّ وقتٍ مضى.

ومع أنّ كثيرًا من المعادلات تَغيّر منذ ذلك الحين—وأبرزها تراجع موقع “حزب الله” بعد المواجهة مع إسرائيل العام الماضي—إلّا أنّ هذا التَغَيُّر لم يُبَدِّل مزاجَ المسيحيين حيال نماذج “الفصل” المطروحة، سواء أكانت فيدرالية أو تقسيمية أو لامركزية مُوَسَّعة، وهي نماذج تحمل دلالاتٍ مُتباينة جدًا ولا تنسجم جميعها مع توقّعات مؤيّديها.

فعلى سبيل المثال، تبدو الفيدرالية، التي تجذبُ فئةً من المسيحيين، عاجزةً عن مُعالجة جوهر المُعضِلة كما يراها هؤلاء: النفوذ السياسي والعسكري الذي يفرضه “حزب الله” على الدولة وقراراتها. فوفقًا لأيِّ نظامٍ فيدرالي كلاسيكي، تبقى السياسة الخارجية والدفاع في يد الحكومة المركزية، لا في أيدي الوحدات الفيدرالية، ما يعني أنّ مكمن القلق سيظلُّ قائمًا، حتى لو تبدّلت الهياكل الإدارية.

أما خيارُ التقسيم، فيبدو أقل واقعية بكثير في بلدٍ صغيرٍ مثل لبنان. فمن الناحية الاقتصادية، لن تكونَ الكيانات الصغيرة قادرة على الصمود، كما إنَّ جُزءًا كبيرًا من المسيحيين يعيش في مناطق ذات غالبية مسلمة—فماذا سيكون مصير هؤلاء؟ ثم إنّ الحديث عن التقسيم يتجاهل إرثه الدموي في القرن العشرين: فلسطين، قبرص، إيرلندا، فيتنام، الهند… جميعها أمثلة على أنَّ التقسيمَ لم يُقَدِّم حلولًا بقدر ما فجّرَ صراعاتٍ جديدة وترك أخرى مُعَلّقة.

في المقابل، تبدو اللامركزية الإدارية الشاملة خيارًا أكثر واقعية وقابلية للحياة. فهي تستندُ إلى ما ورد في اتفاق الطائف حول اللامركزية، مع توسيعها لتشمل الجانب المالي أيضًا. مثل هذه الصيغة تمنح المناطق المسيحية قدرًا أكبر من التحكُّم في شؤونها الإدارية والمالية، وتتيح لها معالجة شعورها بالغبن المرتبط بارتفاع الضرائب التي تُسهم بها مقارنة بمناطق أخرى يقلُّ فيها حضور الدولة ويتراجع مستوى الجباية.

لم تكن هذه القضايا السياسية المعقّدة على جدول أعمال البابا مباشرة، لكن الكنيسة، بطبيعتها، لا تنفصلُ عن حسابات الوجود المسيحي في لبنان. ومن بين التحديات التي يراقبها المسيحيون بقلق متزايد الحديث المتكرّر عن ضرورة تطبيق اتفاق الطائف بالكامل، كجُزءٍ من صفقةٍ محتملة لنزع سلاح “حزب الله”. فهذا المسار يفترض إلغاء النظام الطائفي في توزيع السلطات، ما سيؤدي حكماً إلى زيادة تمثيل المسلمين داخل الدولة. ومثل هذا التحوّل، مهما بدا منطقيًا للبعض سياسيًا، يُثيرُ خشيةً لدى المسيحيين من أن يصبحوا أقل تأثيرًا، حتى لو كان الهدف النهائي تشجيع “حزب الله” على التخلّي عن سلاحه.

غير أنَّ جوهرَ المسألة لا يتعلّقُ بعدد المقاعد التي يخسرها المسيحيون أو يحتفظون بها. فالسؤال الأعمق هو ما إذا كانوا يشعرون بأنهم جُزءٌ من مشروعٍ جماعي حقيقي يتجاوزُ الطوائف ويَمنَحُ المُواطَنة معناها الكامل. والمُعضِلة الأساسية هنا أنَّ التحدّي المسيحي ليس تحدّيًا مسيحيًا بحتًا، بل هو انعكاسٌ لخللٍ بُنيوي في عمل الدولة اللبنانية نفسها. فإذا بقيت الدولة عاجزة، سيواصل اللبنانيون—مسيحيين وغير مسيحيين—الهجرة، وسيقلّ مَن يعود منهم، ما يعني أنَّ التراجُعَ الديموغرافي المسيحي سيستمر بقوة الدفع نفسها.

قبل أكثر من ربع قرن، قال يوحنا بولس الثاني عبارته الشهيرة: “لبنان أكثر من وطن، هو رسالةُ حرّية ومثالٌ للتعدُّدية للشرق والغرب”. وعلى الرُغم من كثرة تكرارها حتى باتت أشبه بشعار، فإنها تحملُ حقيقةً لم تفقد صلاحيتها: لا يمكن للبنان أن ينهضَ إلّا كنموذجٍ تَعَدُّدي قادرٍ على إدارة تنوُّعه المُعَقّد، وصون حرّيات مكوّناته كافة، وتحويل اختلافاته إلى مصدر قوة لا إلى خطِّ صدعٍ دائم.

لكنَّ الوصولَ إلى هذا النموذج يَمرُّ حُكمًا عبر الدولة ذاتها—دولةٌ تعملُ لمصلحة مواطنيها، وتُقدِّمُ خدماتٍ حقيقية، وتمنحُ شبابها سببًا للبقاء. فالكثيرُ من الشباب اللبناني اليوم يطرحُ سؤالًا مُقلقًا: ليس ما الذي يمكنهم تقديمه لبلدهم، بل ما الذي يمكن لبلدهم أن يقدّمه لهم. وفي غيابِ جوابٍ مُقنِع، ستظلُّ الهجرة هي الخيار الغالب، وسيظلُّ مستقبل لبنان، والمسيحيين فيه، مُعَلّقًا على إرادة دولة لم تتشَكَّل بعد.

  • مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى