دخولُ التاريخ من صَفقَةِ القرن إلى فُرصَةِ العُمر
الدكتور فيكتور الزمتر*
لم يُوَفِّر الرؤساءُ الأميركيون، المُتعاقبون على المكتب البيضاوي، جهدًا لتسوية النزاع في الشرق الأوسط، لكن، من دون أنْ تُؤدّي تلك الجهود إلى نتيجةٍ مُرضيةً، بسبب انحيازهم الوازن إلى جانب إسرائيل.
ولم يُشكِّلْ الرئيس دونالد ترامب استثناءً عن نهج أسلافه، وإن كانت مُبادرتُه في مُقاربة هذا النزاع المُعقَّد أكثر منهجية، الأمرُ الذي أثمرَ تحوُّلاتٍ طالت أطرافَه بنِسَبٍ مُتفاوتةٍ.
ففي بداية ولايته الرئاسية الأُولى، مطلع 2017، كلَّفَ الرئيس ترامب صهرَه، جاريد كوشنر، مُهمَّة إنجاز اتفاقٍ نهائيٍّ بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ولكنَّ خبرة كوشنر في سوق العقارات لم تُسعفْه في بلوغ الهدف السياسي المنشود.
فعلى الصعيد الفلسطيني، بدت معالمُ “صفقة القرن” وكأنَّها وُضعت بحيثُ لن يقوى أيُّ قياديٍّ فلسطينيٍّ على قبولها، بينما حرصت الصفقةُ على إشباع نهم تلّ أبيب بمنح الكيان الإسرائيلي الحقَّ بِثُلْثَ الضفة الغربية، من خلال ضمّ المستوطنات القائمة على أراضيها. كما منحت المُبادرةُ كامل مدينة القدس، عاصمةً حصريَّةً لإسرائيل، على أن يُقيمَ الفلسطينيون شبه دولةٍ، عاريةٍ من المرافق البحرية والجويَّة، على ما تبقى من فُتات فلسطين التاريخية.
إلّا إنَّ الإنجازَ الأبلغَ تمثَّلَ بإرساء دعائم “السلام الإبراهيمي”، من خلال اعتراف أربع دُوَلٍ عربيةٍ بإسرائيل، هي الإمارات العربية المُتحدة، البحرين، المغرب والسودان، بدون أن تُقدِّمَ تل أبيب، بالمقابل، أيَّ مطلبٍ للقضية الفلسطينية!
مع عودته إلى البيت الأبيض، دشَّنَ الرئيس ترامب ولايتَه الثانية، في ما يخصُّ الشرق الأوسط، باستراتيجية “القوَّة من أجل السلام”. فبدأت الإدارةُ الأميركية الجديدة استعراض القُوَّة والتهديد بالتدخُّل العسكري، طمأنةً للحلفاء، من جهٍةٍ، وعزمًا، من جهةٍ ثانيةٍ، على إعادة الإعتبار إلى الحضور الأميركي الفاعل، في منطقة استراتيجيةٍ وحيويةٍ، بعدما أوهنت هذا الحضورَ سياسةُ التوجُّه صوب الشرق الأقصى.
من هذا المنظار، تمَّ تفعيل الضغط الأميركي على إيران وتهديدها عسكريًا، بحجَّة برنامجها النووي، إلى جانب إعادة تصنيف حركة “أنصار الله” اليمنية بالمُنظَّمة الإرهابية، وتكثيف الهجمات على الحوثيين.
كما يُمكنُ فهمُ غضِّ الطرف الأميركي عن احتلال إسرائيل للمنطقة العازلة في مُرتفعات الجولان، بعد فكّ الإرتباط في العام 1974، إضافةً لضرب البُنية العسكرية السورية، وتوجيه تل أبيب غاراتٍ جويَّةٍ مُوجِعةٍ لإيران.
يقوم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حاليًا، بجولةٍ خليجية، يستهلُّ محطَّتَها الأُولى بالسعودية، وتشملُ دولةَ الإمارات وإمارةَ قطر. واللّافتُ في جولة الرئيس ترامب الشرق أوسطية التفاتتان، أوَّلُهما تخصيصُ دُوَل الخليج بأوَّل زيارةٍ خارجيةٍ له- إذا ما اعتبرنا زيارتَه الخاطفةُ للفاتيكان اقتصارًا على حضور جنازة البابا الراحل فرنسيس- في خروجٍ على نهج أسلافه باستهلال ولاياتهم بزيارة دولةٍ جارةٍ أو حليفةٍ، مثل كندا أو المكسيك أو بريطانيا. أمّا الإلتفاتَةُ الثانيةُ، فقد تَمَثَّلَت بعدم إدراجه إسرائيل في هذه الجولة، نظرًا للروابط المتينة بين واشنطن وتل أبيب.
على كلّ حالٍ، من المُبكر ربطُ ذلك بموقفٍ مُعيَّنٍ أرادَ الرئيس ترامب تسجيلَه في مرمى نتنياهو، ربطًا بما سرَّبه بعض وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية من فتورٍ شابَ علاقةَ الرجُلين، أخيرًا، على خلفية المُفاوضات الأميركية-الإيرانية ووقف الهجمات على اليمن، عكس رغبة حكومة إسرائيل اليمينية.
وفي حال ثُبوت صحَّة هذا الفُتور، الأملُ في أنْ يكونَ الرئيسُ ترامب قد أيقنَ بأنَّ إسرائيل ليست في وارد التخلّي عن شبرٍ من أرض فلسطين، ولا بالتالي تسعى إلى السلام مع جيرانها، الذين تعتقد أنَّ هرولتَهم للتطبيع معها مسألةُ وقتٍ، وبالتقسيط، قياسًا على أنَّ ثُلثَهم، تقريبًا، قد سالَمَها لتاريخه.
لم يعد قادةُ الحكومة الإسرائيلية يرونَ غضاضةً بالتصريح علنًا بأنَّهم عازمون على تهجير أهل الضفة الغربية، وبأنَّهم سيُبقون على احتلالهم لقطاع غزَّة، وأنَّ سياسةَ هدم المنازل إنَّما تهدفُ إلى ترحيلهم عن ديارهم، وحشرِهم مؤَقَّتاً في شريطٍ ساحلي ضيِّقٍ، بانتظار إقناع بعض الدول العربية والأجنبية باستقبال شتاتهم، المُشتَّت أصلًا.
جديرٌ بالتذكير، أنَّ تصوُّرَ الرئيس ترامب للسلام في الشرق الأوسط يقومُ على ثالوثٍ سياسيٍّ أمنيٍّ اقتصاديٍّ، تُمسكُ واشنطن بقياده. وعليه، الأملُ أيضًا أنْ يكونَ الرئيسُ ترامب قد تيقَّنَ بأنَّ التطبيعَ المُتدرِّجَ لثُلث الدول العربية مع إسرائيل، ما كان ليحصلَ لولا الخطر، الذي استشعرته واشنطن، في سبعينيات القرن الماضي، بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، خوفًا على فُقدان نفوذها في العالم العربي.
تلك الحربُ أجبرت الولايات المُتحدة على التدخُّل، من خلال الجسر الجوي، الذي أقامته للدفع بالدبابات الأميركية مع طواقمها إلى الجبهة، لنجدة إسرائيل. وهذا ما أغاظَ العربَ وسهَّلَ تغلغُل النفوذ السوفياتي في بعض الدول العربية، المُعتبرة راديكالية، لانبثاقها من رحم الإنقلابات العسكرية.
وعليه، اضطُرَّت واشنطن، يومها، إلى رعاية جملة مبادرات، عبر وزير خارجيتها، وليم روجرز، ومستشار الأُمن القومي، الداهية هنري كيسنجر، لفكّ الإرتباط بين إسرائيل وكلٍّ من مصر وسوريا، في العام 1974، لإبعاد النفوذ السوڤياتي ولتوطيد الهيمنة الأميركية على المنطقة الإستراتيجية، والزاخرة بالثروات الدفينة. وقد تبيَّنَ، لاحقًا، أنَّ تلكَ المُبادرات أسَّست لزيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس، التي، بدورها، مهَّدت لاتفاقات “كامب دايفيد”، باكورة التطبيع العربي-الإسرائيلي.
إنَّ سياسةَ اليمين الإسرائيلي الحاكم، من غزَّة إلى الضفة الغربية إلى لبنان وسوريا، وُصولًا إلى إيران، تُظهرُ مُخطَّطه التوسُّعي، العازم على محو اسم فلسطين، شعبًا وأرضًا، من القاموس. وهذا، ما يُقوِّضُ بُنيةَ “صفقة القرن”، القائمة على سيبة دولتين مُتجاورتين، وإنْ قصدت تقزيم الطموح الفلسطيني بدولةٍ مُستقلَّةٍ حرَّةٍ، قابلةٍ للحياة بكرامة.
لقد باتَت واضحة الأهمية التي يوليها الرئيس ترامب للمملكة العربية السعودية، التي غدت، وِفق تصريحات مسؤوليها، أسيرةَ تعهُّدها بعدم التطبيع مع إسرائيل إنْ لم يكن هناك تعهّدٌ رسمي مُقنعٌ بقيام الدولة الفلسطينية. غنيٌّ عن البيان ما يُحدثُه التطبيع السعودي مع إسرائيل من أثرٍ تصالُحيٍّ بين العالم الإسلامي واليهود، بقدر ما يُعزِّزُ النفوذ الأميركي في العالم، في وقتٍ تُكافحُ واشنطن، تشبُّثًا بزعامتها الآحادية، بسبب المُنافسة الصينية.
صحيحٌ أنَّ نتنياهو يضربُ بعرض الحائط مشاعر العالم المُتعاطفة مع المُعاناة الفلسطينية، إنقاذًا لنفسه من المُحاكمة المُؤجَّلة لحينٍ. لكنَّ الصحيحَ أيضًا أنَّ الرأيَ العالمي، ومن ضمنه الأميركي تحديدًا، يُراكِمُ الغضبَ ضدَّ سياسة التجويع والتطهير، ما يُقلِّصُ التعاطُفَ الدولي الذي نعمت به إسرائيل طويلًا، ويُحوِّلُها بالتالي إلى دولةٍ منبوذةٍ.
أمام الرئيس ترامب، اليوم، في ولايته الأخيرة، الفرصةُ لصناعة التاريخ، قبل أنْ يحجزَ له مقعدًا فيه. لقد عاهدَ نفسَه والعالم بإنهاء الحرب في أوكرانيا؛ وها هو يرسل مسؤولين كبيرين للإنضمام إلى مفاوضاتٍ مباشرةٍ، بين روسيا وأوكرانيا، في إسطنبول، يوم غد الخميس.
كذلك، تدخَّلَ لوقف إطلاق النار بين الهند والباكستان النوويَّتين. كما بدأت الأُمور بالإستتباب على الصعيد التبادل التجاري العالمي، بعد الصدمة المحسوبة، التي أحدَثَها بشأن الرسوم الجمركية. هذا إلى جانب جهده للتوصُّل إلى اتفاقٍ مع إيران، بشأن برنامجها النووي، ووقف هجماته على الحوثيين.
تبقى أمامه خُطوةٌ رسوليةٌ، إن أقدم عليها، وهو القادرُ المُتحرِّرُ في ولايته الثانية، وذلك بتوقيع مرسومٍ تنفيذيٍّ، لم يسبقْ لأحدٍ من أسلافه أن تجاسرَ على توقيعه، وهو الإعتراف بحقِّ فلسطين بدولةٍ، كاملة الأوصاف، ما يُنصفُ أعدلَ قضيةٍ عرفتها البشرية في الزمن المُعاصر.
حبَّذا لو عَزَمَ على هذه الخطوة النبيلة، في ربيع العمر، وفي قمَّة إنجازاته الشخصية والوطنية والإنسانية، فيدخلُ التاريخَ من بابه العريض!
- الدكتور فيكتور الزمتر هو كاتب سياسي وسفير لبناني متقاعد.