اعترافات بيتهوفن (6 من 8)

هنري زغيب*
إِنه نصٌّ فرنسيٌّ للكاتب اللبناني الفرنكوفوني المحامي اسكندر نجَّار، كان صدر كتابًا في بيروت لدى منشورات L’Orient des livres. تمَّ إِطلاقُهُ ضمن “مهرجان البستان 2020” في الاحتفاليةٍ الخاصة: “أُمسيات باريس”، على “مسرح إِميل البستاني” مساءَ الأَربعاء 26 شباط/فبراير 2020 بأَداء الممثِّل الفرنسي جان فرنسوا بالمير Balmer قراءةً النص، وعبدالرحمن الباشا عزفًا على الـﭙـيانو.
ومساء التاسع من آب/أغسطس 2022، تَمَّ إطلاقُ النص بالعربية على مسرح “مونو” – الأَشرفية، بأَداء الممثل بديع أَبو شقرا قراءةً النص، والفرنسي نيكولا شوڤرو Chevereau عزفًا على البيانو. وصدرَ النص العربي كتابًا لدى “منشورات سائر المشرق”.
سأَقتطف من تلك “الاعترافات” مقاطعَ موجزةً على 8 حلقات مختَصَرة.
هنا الحلقة السادسة، حول تَوَهُّمه السياسي.
أَوهامي السياسية
في السياسة، كما في الحبّ، قاعدةٌ واحدة: التقَلُّب.
دعمُ رجل السياسة، بالمطلق، يعني قُبولَ ضلالاته والانجرارَ وراءَه في مغامراتٍ قصيرةِ الأَجَل.
وأَنا، كجمهوريٍ وديمقراطي، أَعترف أَنني كنتُ مبهورًا بناﭘـوليون بوناﭘـارت: كان يجسِّد لي فكْر عصر الأَنوار ورمزَ الثورة الفرنسية. كنت أَرى إِليه في بداياته مُعادِلَ “كبار قناصل الرومان”، وكنتُ أُتابع مسيرته بحماسة.
لم أَكن وحدي في منْحِه أَعلى قَدْرٍ من التقدير والإِعجاب: فالشعراء والمفكرون الأَلمان غوته وكانط وشِـلِــر وهُولْدِرْلِن كانوا يرَون إِليه بتلك الحماسة، والفيلسوف هيغل رأَى فيه “رُوحًا على مستوى الخلود، فردًا يعادل العالَـم ويسيطر عليه”.
كنت مغشوشًا بــبونابارت
سنة 1803، ارتكبتُ باندفاعتي تَـهَــوُّرَ أَن أُهدي ناﭘـوليون السمفونيا الثالثة التي سمّيتها “البطولية”، ولم أَتصوَّر وقتئِذٍ أَنَّه سيُعلنُ ذاته أَمبراطورًا وسيغزو أُوروﭘَّــا حتى مَـجاهل روسيا مُسَبِّبًا موتَ مئات آلاف المواطنين.
ذات ليلةٍ، أَذكرها كأَنها ليلة أَمس، جاءَني صديقي وتلميذي فردينان رايْسْ يُـبْلغُني أَنَّ ناﭘـوليون أَعلنَ أَنه “إِمبراطور”. أَذهلَني الـخبَر: إِذًا هذا الناﭘـوليون ليس سوى رجلٍ، رجل عاديّ كسواه، نشوانَ بسَكْرة الـحُكْم، يُعميه الطموح، يُـحرِّكه التكبُّر، قادر أَن يَقمع الـحرّيات وأَن يتحوَّل طاغيةً ليَفرض سُلطته.
أَحسَسْتُني مغشوشًا، مشْمئِــزًّا، ولُـمْـتُني بقسوةٍ أَنْ كنتُ ساذجًا متحمِّسًا لوُصولـيٍّ انتهازيٍّ مسكونٍ بـجنونِ العظَمة. هرعتُ إِلى مخطوطة السمفونيا البطولية، وبطرَف سكّين مَـحوتُ كُـلِّــيًّــا عن صفحة الإِهداء الأُولى اسمَ بوناﭘـارت. وحين انتصرَ ناﭘـوليون على الـﭙـروسيين في معركة إِيــينا انتابَني غضَبٌ جامح. لو كانت لي قدرةُ الـحرب كما لي قدرةُ الـموسيقى لكُنتُ هاجـمْتُه وكسَرْتُه!

رفضت العزف لضبَّاط فرنسيين
في خريف 1806 رافقْتُ داعمي الأَميرَ كارل ليشْنوﭬْـسكي إِلى منطقة سيليزيا التاريخية، وكان جيش بوناﭘـارت احتلَّها منذ معركة أُوسترليتْز. هناك طلبَ إِلـيَّ الأَمير أَن أَعزف على الـﭙـيانو مقطوعاتٍ لضبَّاط فرنسيين كانوا في قصره. طبعًا رفضْتُ. ثار وهدَّدَني بسَجني.
خرجْتُ صافقًا ورائيَ الباب ولو مُدركًا أَنَّ هذا الرفضَ سيكلِّفني حرماني من الـمساعدة الـمالية التي يَسخى بها عليَّ منذ سنوات. وبلغ بـيَ الغضب من ذاك الـموقف الـمُذِلِّ أَن كتبْتُ له رسالةً قصيرةً حروفُها نبضاتُ عنفوان: ” أَيها الأَمير، ما أَنتَ عليه، جاءَكَ من صِدْفَة ولادة. ما أَنا عليه جاءَني مني أَنا. الأُمراء موجودون وسيوجد مثلهم بعدُ آلاف. إِنما لا ولن يوجَد إِلَّا بيتهوﭬِـن واحد.”
سمفونيا فيتُّوريا
بعد مدةٍ من تلك الـحادثة، غداةَ انتصار دوق وِلِنْغْـتُون في ﭬـيتُّوريا الإسبانية على جيش جوزف بوناﭘـارت، شقيق الإِمبراطور، تناولتُ الـمناسبة لأُعوِّضَ فوضعتُ سمفونيا بطولية ذاتَ حركتَين عَنْوَنْتُها “معركة ﭬـيتُّوريا أَو انتصار وِلِنْغْتُون”، تَكرَّر عزفُها مرارًا في ﭬـيينَّا وعاد ريعها إِلى مساعدة جرحى الحرب. وإِيغالًا في إِحياء جَوّ النصر، أَدخلتُ بالـموسيقى أَصوات مدافع وبنادق على آلات الأُوركسترا التي خاطرتُ بقيادتها ولو أني لم أَسمع من جميع أَصواتها إِلَّا قرعاتِ الطبل الكبير.
“البطولية” ستبقى الخالدة
من التناقضات أَنَّ سمفونيا معركة ﭬـيتُّوريا البُطولية، الـمناهِضةَ الناﭘـوليونية هي أَقلُّ أَعمالي افتخارًا بها. كانت “حماقةً”، تسليةً موسيقية، فيما السمفونيا البطولية الْكانت مهداةً إِلى بونابارت الذي عدتُ فانقلبْتُ ضدَّه، هي الأَفضلُ عندي، وستبقى، كما آمَل، رائعةً خالدة.
الموسيقى أَرفعُ من جميع العقائد: حينما نَغَمٌ من آلةٍ موسيقية يَرتفع، يَرفعُنا معه إِلى حالةٍ ساميةٍ أَعلى كثيرًا من حـمَاقات البشر.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.