الدروز في سوريا في خِضَمِّ دوّامةٍ إقليمية
الدروزُ عنصرٌ أساسيٌّ في عملية بناء الدولة السورية. ويُعَدُّ نزعُ سلاحهم ودمجهم في الدولة -أو عدمه- معيارًا لقوّة الحكام في دمشق.

أرميناك توكماجيان*
أعادت الاضطراباتُ الأخيرة في سوريا إشعالَ النقاش حول مصير الأقلّيات في البلاد، وجذبت اهتمامًا دوليًا وإسرائيليًا. في نيسان (أبريل) الفائت، واجَهَ حكّامُ سوريا الجدد ثاني أزمتهم الداخلية الكبرى منذ آذار (مارس)، بَعدَ تمرُّدٍ في المنطقة الساحلية، أعقبته مذبحةٌ بحقِّ العلويين.
بدأت الجولة الأخيرة من القتال في نهاية نيسان (أبريل) في جرمانا، وهي بلدة ذات غالبية درزية قرب دمشق، عندما اشتبك مسلّحون محلّيون مع قواتٍ من وزارة الدفاع ومديرية الأمن العام. وسرعان ما امتدت الاشتباكات إلى معقلٍ درزيّ آخر، صحنايا، وكذلك إلى السويداء في الجنوب. خلّفت الاشتباكات عشرات الضحايا في صفوف الدروز والقوات الموالية للحكومة، وبلغت ذروتها بقصفٍ إسرائيلي لمنطقةٍ قرب القصر الرئاسي في دمشق، بذريعةِ أنَّ إسرائيل لن تسمحَ بأيِّ تهديدٍ للدروز.
جسّدت هذه التطوّرات المشاكل المُتَعَدِّدة الجوانب التي تُواجهها سوريا منذ سقوط نظام الأسد. كما إنها فتحت نافذةً على المصالح الإقليمية المُتنافسة في سوريا، وتحدّيات ما بعد الحرب التي تواجهها سوريا، والديناميكيات المُتغيِّرة بين الدروز. أظهَرَ تدويلُ أحداث جرمانا أنَّ سوريا لا تزالُ ساحةَ صراعٍ للقوى الأجنبية. سمحَ انهيارُ نظام الأسد وخروج إيران في كانون الأول (ديسمبر) الماضي لتركيا وإسرائيل والمملكة العربية السعودية بمَلءِ الفراغِ ومحاولةِ التأثير في مجريات الأحداث في سوريا. تقودُ أنقرة والرياض، كلٌّ منهما لأسبابها الخاصة، جهودًا لتحقيق الاستقرار في البلاد ودَعمِ ما أسماه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع “بناء الدولة”، ومنع الفتنة الداخلية، وتأمين موارد الدولة (من خلال إنتاج النفط ورفع العقوبات الدولية)، من بينِ أمورٍ أخرى. ويُعَدُّ نزعُ سلاح الميليشيات ودمجها في الدولة جُزءًا من هذه العملية التي تدعمها تركيا والمملكة العربية السعودية.
بالنسبة إلى إسرائيل، تُمثّلُ سوريا التي تحكمها جماعةٌ إسلامية متطرِّفة مدعومة من تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية قُنبلةً موقوتة. لذلك، يُفضّلُ الإسرائيليون السعي بنشاط إلى تقسيم وتجزئة سوريا، مع التزامهم بمنع أيِّ تهديدات بالقرب من حدودهم. إنَّ انتشارَ الجماعات المتطرّفة جنوبًا، سواءً تحت غطاء الدولة السورية أو غيرها، قد يُشكّلُ تهديدًا مُحتَمَلًا لإسرائيل، إذ قد تُوَحِّدُ هذه الجماعات جهودها مع جهاتٍ محلّية أو إقليمية للتأثير في الأمن الإقليمي. تُظهر الصراعات الدائرة في غزة ولبنان وسوريا المدى الذي قد تصلُ إليه إسرائيل لفرض خطوطها الحمراء.
يقع الدروز في فخِّ هذه الديناميكيات. يعملُ الشرع على ترسيخ سلطته من خلال إعادة دمج المناطق السورية ذات الحكم الذاتي في الدولة، وذلك في المقام الأول من خلال نزع سلاحها. في جرمانا وصحنايا والسويداء، طالبَ الجماعات المسلحة المحلية بتسليم أسلحتها، ما أدّى إلى رَدِّ إسرائيل العدواني، بل وغير المتناسب. ويعود ذلك جُزئيًا إلى العلاقات التاريخية القوية بين إسرائيل ومجتمعها الدرزي. كما إنها جُزءٌ لا يتجزأ من مساعي إسرائيل للدفع بمشروع تقسيم سوريا. في الواقع، صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بوضوح أنَّ بلاده “لن تسمحَ للقوات [السورية] بالانتشار جنوب دمشق أو [بتشكيل] أيِّ تهديد للدروز”.
تكشفُ التطوُّرات أيضًا عن نَهجَين مُختلفَين للدروز للتعامُل مع حكّام سوريا الجدد، تتبنّاهما جهاتٌ محلية مختلفة وتدعمهما سلطات درزية منفصلة. يتمثّلُ أحد النهجَين في الزعيم الديني حكمت الهجري، الذي أصبح أكثر تشدُّدًا بشكلٍ متزايد. صوّرَ الهجري حكّامَ سوريا الجدد على أنهم “مطلوبون للعدالة الدولية”، ووصفَ الأحداث الأخيرة في سوريا بأنها “إبادة جماعية” ضد الدروز، ودعا إلى تدخُّلٍ دولي. ويتماشى موقفه مع موقف شخصية دينية درزية بارزة في إسرائيل، موفّق طريف، الذي تربطه علاقات وثيقة بالحكومة الإسرائيلية.
من جهةٍ أخرى، اتخذت شخصياتٌ دينية مثل حمود الحناوي ويوسف جربوع، إلى جانب أصواتٍ شابة مثل ليث البلعوس، نهجًا أكثر تصالُحية تجاه السلطات السورية الجديدة. خلال معارك جرمانا، انخرطوا في مفاوضاتٍ مع الدولة، على عكس الهجري. وقد أيّدَ الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، وهو مرجعية إقليمية مهمّة للدروز، هذا النهج. وانتقدَ علنًا انخراط طريف المتزايد في شؤون الدروز السوريين، بدعمٍ من الدولة “الصهيونية”، التي تدفع نحو “حربٍ لا نهايةَ لها ضدّ المسلمين”، على حدِّ تعبيره. قد تكون لهذه النتيجة عواقب وخيمة على كلٍّ من السوريين واللبنانيين.
ومع ذلك، يبدو أنَّ جميع الفصائل الدرزية تتفق على ضرورة الاحتفاظ بأسلحتها، على الأقل في الوقت الحالي. كان هذا صحيحًا من قبل ولا يزال بدون تغيير بعد الأحداث الأخيرة. وهو يعكسُ مستوى أعمق من القلق في الوضع السوري، وتحديدًا بسبب انعدام الأمن في جميع أنحاء البلاد، والذي تواجهه الأقليات بشكلٍ خاص. تُنذر الجماعات الخارجة عن السيطرة والخطاب الطائفي المتصاعد بإثارة العنف، لا سيما في ظلِّ دولةٍ سورية ضعيفة عاجزة عن احتوائها. في الأحداث الأخيرة، وُصِفَ الدروز بالشيطنة والكفرة، وصدرت دعوات عفوية لقتلهم.
نظريًا، يُعَدُّ تسليم الأسلحة للحكّام الجدد مقابل الحماية والمكافآت والمناصب ودور في بناء الدولة أمرًا جذّابًا. لكن في ظل البيئة السورية القاسية، غالبًا ما يُنظَرُ إلى الاعتماد على حُكم الشرع الهشّ على أنه محفوفٌ بالمخاطر. فبدون أسلحة، ستُترَكُ الأقليات، مثل الدروز، عُرضةً للخطر. لا تَكمُنُ المشكلة في غيابِ دولةٍ فاعلة أو سيادة قانون فحسب، بل في انعدامِ الثقة العميق. في العام 2015، ارتكبت “جبهة النصرة”، قبل أن تتحوّل لاحقًا إلى “هيئة تحرير الشام”، التابعة للشرع، مجزرةً بحق الدروز في إدلب، وفي العام 2017، قتل انتحاري من “جبهة النصرة” تسعة أشخاص وأصاب ٢٣ آخرين في بلدة حضر ذات الغالبية الدرزية.
جاءت مذبحة العلويين في شهر آذار (مارس) بعد أن كَشَفَ حَشدُ الشرع لأنصاره عن القوّة الخام وراء حكمه، والتي تتكوّن في المقام الأول من قوات جهادية سنّية مُهمَّشة سابقًا. مع أنه من المهم الإشارة إلى أنَّ الدروز لا يُنظَرُ إليهم بالطريقة نفسها التي يُنظَرُ بها إلى العلويين، الذين يعتبرهم الكثيرون متواطئين في جرائم نظام الأسد، إلّا أنَّ الكثيرين من أبناء طائفة الموَحّدين يشعرون أنَّ نزعَ السلاح سيُعرّضهم للخطر. حتى الشخصيات التصالحية، مثل الحناوي، أعربت عن قلقها إزاء عمليات القتل على الساحل. وأخيرًا، صرّح مفاوضٌ درزي من جرمانا قائلًا: “من حقّنا أن نخاف. لقد رأينا ما حدث في أماكن أخرى”.
إنَّ الدروزَ عنصرٌ أساسيٌّ في عملية بناء الدولة السورية. ويُعَدُّ نَزعُ سلاحهم ودمجهم في الدولة -أو عدمه- معيارًا لقوة الحكام في دمشق. فمنذُ عهد الانتداب الفرنسي وحتى فترات رئاسة شكري القوتلي وحسني الزعيم وأديب الشيشكلي خلال خمسينيات القرن الماضي، حاول القادة السوريون دمج الدروز بالقوة، من دون نجاح يُذكر. إلّا أَّن سنوات حكم حزب البعث شهدت تحسُّنًا، ليس بسبب الإكراه، بل لأنَّ الكثيرين من الدروز رَؤوا في الحزب قدرةً على تشكيلِ مستقبل سوريا. وهذه دروسٌ قَيِّمةٌ ينبغي على قادة سوريا الجدد أخذها في الاعتبار.
- أرميناك توكماجيان هو باحثٌ غير مقيم في مركز مالكولم هـ. كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. يُركّز بحثه على الحدود والصراع، واللاجئين السوريين، والعلاقات بين الدولة والمجتمع في سوريا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.