كيف تتأمل إيران سقوط “الهلال”؟

محمّد قوّاص*

هناكَ شيءٌ سيتغيّر في المنطقة. ستُفصِحُ المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران، جلسةً بعد أخرى، عن أعراضِ تحوُّلٍ في الخرائط الجيوسياسية في الشرق الأوسط التي تلاعبت طهران في توازناتها، عامًا بعد آخر منذُ قيام الجمهورية الإسلامية في العام 1979. وسواء توصّل الطرفان إلى الاتفاق سلمًا، أم آلت الأمور إلى تحريك لغة النار، فإنَّ زمنًا قد ولّى إلى غير رجعة، لا تعمل دولة الوليّ الفقيه على استرجاعه بل التخفيف من كوارث اندثاره.
هناكَ في المنطقة، لا سيما داخل “الهلال الشيعي”، حسب المصطلح الشهير للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني لعام 2004، مَن غادرَ أو سيُغادرُ سطوةً ونفوذًا و “بلطجة” استُخدم من أجلها أعتى وسائل الفتك وأقساها خبثًا. لن تعودَ إيران إلى حكم “العواصم الأربع”، وهي مهجوسة بالحفاظ على طهران عاصمة البلاد. ولا يبدو الأمرُ خيارًا استراتيجيًا يلوذ بفتوى “التقية” ورشاقة الانحناء أمام العاصفة، بل هو اضطرار قهري للقبول بالهزيمة وقواعدها حتى لو استبسلت منابر طهران ومحورها في التشدّق بالنصر المبين.
خسرت إيران شيعة المنطقة. يكفي تأمل مواقف كتل الطائفة الاجتماعية والسياسية في لبنان والعراق ودول أخرى لاستنتاج ذلك الغضب من “قَدَرٍ” فَرض على دول المنطقة وشعوبها، من العراق إلى اليمن، بئس المصير. وستظهر هذه الخسارة بالتدرّج الفاضح، لا يُمعِنُ في فداحتها إلّا مزاج شيعة إيران نفسها الذين يداعب المرشد علي خامنئي مشاعرهم بالوعد بفتح البلاد أمام استثمارات أميركية ضخمة وواعدة. هكذا يصبح ذلك “الشيطان” ربّا لخلاص موعود.
قد لا تُصدّق طهران أنَّ للامبراطوريات، لا سيما تلك المزعومة، لحظة خلدونية تنهي صلاحية بقائها. وكلّما أكثر الخاسرون من امتطاء مظاهر المكابرة، كلما برز هول تلك الهزيمة. بدا أنَّ “مهزلة” العناد بالولوج عبر مفاوضات غير مباشرة للعبور إلى تلك المباشرة هي أقصى ما تفتقت عنه عبقرية الحاكم في طهران لقهر واشنطن ومبعوثها التواقيْن إلى كرم اللقاء ونعمة التصافح. وتبدو لغة “الإيجابية” التي تصدر عن وزير الخارجية، عباس عراقجي في تقييمٍ للقاء مع “صديق” الرئيس الأميركي وهو مبعوثه، ستيف ويتكوف، أقرب إلى طقوس الاسترضاء وعلامات الحبور.
لن يعود “الهلال”. فُقِدَ تمامًا يوم “تحرير” دمشق وانتشالها من وبال 54 عامًا. يعمل العرب على تأكيد هذه الحقيقة وجعلها نهائية لا مجال لفقدانها. كان الرئيس السوري، أحمد الشرع، يزور الإمارات ويلتقي الشيخ محمد بن زايد حين حطّ موفد السعودية، الأمير يزيد بن فرحان، في بيروت ليحثّها على تدعيم العلاقات مع دمشق. تقصّدَ المبعوث السعودي أن يستبق رحلة رئيس الحكومة، نواف سلام، إلى العاصمة السورية. بدت الرياض متنبّهة ترعى على نحوٍ مفاجئ اتفاق حدود بين لبنان وسوريا وتُسدّد ديون سوريا للبنك الدولي. وبدا أنَّ الشرع سمع لاحقًا في الدوحة ما سمعه في أبوظبي وقبل ذلك في أنقرة والقاهرة والرياض بشأن عودة “الهلال” إلى أهله.
تدرك المنطقة جسامة التحوّل الجيوستراتيجي. تعرف أنَّ “الهلال” يحتاج إلى متابعة ودعم واحتضان، وأنَّ كلَّ الجهود المبكّرة التي بذلتها دول الخليج ومصر وتركيا باتجاه العراق كانت تستبق لحظة ربما توقّعها المستشرفون. تدرك المنطقة أيضًا دور الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في الإمساك بخرائط بدأت تفرضها كارثة “طوفان الأقصى” وتفرض أمرها الواقع. فإذا كانت للرجل أحلامٌ وأطماعٌ وأجندات، فإنَّ عواصم المنطقة بالمقابل تُعِدُّ للرجل الآتي في أيار (مايو) المقبل خرائطها وجدول مصالحها.
بات مطلوبًا تطهير “الهلال” من دويلاته. تتخلّى طهران مُكرَهةً عن “أذرعها”. تناقش بغداد مع فصائل الوليّ الفقيه في العراق تسليم السلاح بعد أيام على زيارة مفاجئة لقائد فيلق القدس، اسماعيل قآاني. في لبنان أيضا بدأت هذه الورشة وإن تُقسِمُ منابر القريبة من “حزب الله” على استعداء الأمر واستبعاده. ولئن تُكرّرُ طهران كل يوم أنها لن تسمح أن تناقش مفاوضاتها مع واشنطن ملف “الأذرع”، فإنها تُفرغ ذلك الملف تارة بالنأي بالنفس عن تلك الفصائل واعتبارها مستقلة القرار (الحوثيون مثالًا)، وتارة أخرى من خلال حثّ تلك الفصائل مواربة على حرية اختيار ما تراه مناسبًا. يرتبك الحزب في لبنان فيسرّب لـ “رويترز” استعدادًا مشروطًا لنقاش السلاح ومقدسه.
سقط ذلك “الهلال”. يتهاوى أمام أعين طهران. تتصدّع جدرانه وسط شلل في إيران وعدم اكتراث. فالأذرع فرع وليست أصل الحكاية. راقبْ غضب الغاضبين في برلمان طهران. لا أحد مهتم بمصير إمبراطورية نمت خلال أكثر من 45 عامًا وتهاوت أوراقها في العامين الأخيرين. يكتشف ساسة طهران فجأة أنَّ لإيران حدودًا من الأجدى الوقوف عندها وتحريم الإطلالة على “هلال” الآخرين.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى