حُرِّيَةُ الشاعر: التَقَيُّدُ بالأُصول

هنري زغيب*
في سياق هذه السلسلة التي بدأْتُها عن الشعر منذ ست حلقات، أُواصل البحث في جوهر الشعر ظاهرةً أُعجوبيةً كالسحر لا يُمَسُّ ولا يُشرحَ في بيانٍ منطقيّ.
العاجزون يخترعون تنظيرات تبريرية
بين النغَم والصورة، واختيار كلماتٍ تتجانَبُ بِتِقْنِيَةٍ واعيةٍ جَماليةٍ حاذقة، يكون الشاعرُ الشاعرُ مهندسَ إِيقاعٍ موسيقيٍّ بارعًا، وملوِّنًا ساحرًا، ونَحّاتًا ذوَّاقة، يَغْنَم من جميع الفنون والحِرَف. قد لا يكون مُلِمًّا بِحذاقة الأَقدمين كلِّها، لكنه يعرف منهم الفِلَذ الجميلة في شعرهم، ويعرف قواعِدَها، فيَغْنى بِها ويأْتِي بأَجملَ منها. قد تتواتر إِليه (خلال كتابَتِه) مفرداتٌ وصيَغ متعدِّدةٌ في بيت واحد من القصيدة، وعندها عليه – بِحذاقة الصَّناع وبراعة الجواهريّ ودقّة الصيدلِيّ وذَوق العطّار- أَن يَختارَ منها ما يَجْمُلُ وضعُهُ في ذاك البيت من القصيدة. وهذا ما لا يستطيعه المقصِّرون، فيَروحون يَخترعون تنظيراتٍ واهيةً تُبَرِّر تَفَلُّتَهم من الأُصول والقواعد، لأَنهم يستسهلون كسر الأُصول في الكتابة، ولا يتجرَّأُون (أَو هُم لا يقدرون) على اتِّباع الأُصول، في الصعوبة التي منها وحدها يولَدُ الإِبداع الخالِد على الزمان. إِن الاستسهال لم يولَّد يومًا فنًّا عبقريًّا.

لا بدَّ من الكلاسيكية
على كلّ عملٍ فني أَن تكونَ فيه ملامحُ كلاسيكيةٌ راسخةٌ في الزمن، لضبطِه بتوازُنٍ ضروريّ، من خلال مرساةٍ ثابِتَةٍ بانتظام عقليٍّ وضوابطَ متعارَفٍ عليها، وإِلَّا تَجْمَحُ القصيدة وتُفْلِتُ من قدرة الشاعر حتى لا يعودَ ربَّانَها، فتغرق ومعها يغرق الشاعر وقرَّاؤُه. إِنّ الانفلات الأَهْوَج لا يؤَدي إِلَّا إِلى الضَياع في النَوّ بين اللُجَج القاتلة.
وإِذا الشعرُ عملٌ فنيٌّ حاذقٌ وراءَه صناعٌ فنيٌّ حاذق، فالشاعر الشاعرُ هو مَن يعرف كيف يعتمد جَماليا الكلمة وإِيحاءاتِها وإبداعيَّتها. الفكرةُ موجودةٌ لكل الناس، إِنّما المهمُّ معرفة اختيارها: بأَيِّ شكل وأَيِّ لباس.

… بل ما هي الرؤْيا
الشعر رؤْيا؟ صحيح. والقصيدة ليست “ما هو الموضوع؟” بل “ما هي الرؤْيا”؟. لكنَّ المُهمّ ترجَمةُ هذه الرؤْيا وإِيصالُها إِلى الناس واضحةً بالصورة التي التقطها الشاعر في هنيهات رؤْياه.
هكذا يكون الشعر، فعلًا، حاجةً يُعاد إِليها فسحةَ تَنَفُّس حين يَتأَكْسَد الهواء. وليست مصادَفَةً أَن يقول البابا بولس السادس: “إِننا في حاجة مستمرَّة لا إِلى علماء وفلاسفة، بل إِلى شعراء”.
إِنَّ الحالة الإِنسانية واحدة. والامتدادات في الشعور الإِنساني واحدة. وهي تتوحّد في الشمولية. وأَكثر: الكلماتُ هي هي، مطروحة أَمام جَميع الشُّعراء، كما النوتاتُ الموسيقيةُ السبعُ هي هي، مطروحةٌ أَمام جَميع الموسيقيين. المهمّ: كيف كلُّ شاعر يتناولُ هذه الكلمات في انتظامٍ عبقريٍّ، وكيف منها يُرَكِّبُ العبارة ليُعبِّر أَكثر وأَوضح وأَجْمل عن الحالة التي يَحياها. ففي اللغة كلماتٌ تَصلح للنثر، وقد لا تدخل في الشعر، كما فيها كلمات شعريةٌ رائعة لا تصلح في مقال سياسيّ أَو علميّ أَو تكنولوجيّ. وحتى في الِشعر نفسه، كلامٌ من زنبقٍ يقال في الحبيبة، وكلامٌ من نار يقال في الوطن، ولا يَجوز الخلْط بينهما.
الشعر كلمات لا أَفكار
الشاعرُ سيِّدُ الكلمات والأَشكال. ذاتَ يومٍ كان الرسَّام دوغا في حوارٍ مع الشاعر مالارميه في أَحد مقاهي باريس. قال دوغا: “مساءَ أَمس، كتبْتُ أَفكارًا جميلةً في نصٍّ اكتشفتُ عند كتابته أَنه لَم يَخرج كما شئْتُهُ شِعرًا”. فأَجاب مالارميه: “الشعر ليس أَفكارًا. إِنه كلمات”.
من هنا لا يَجوز – بِاسْم التجديد و”الحداثة” – انتهاكُ قِيَمٍ راسخة تضْمن خلود الشعر، وإِلَّا تَفَتَّتَت القصيدةُ مع الزمن واندثَرَت، كما تَتَفَتَّتُ أَلوانُ اللوحةِ إِذا لَم يؤسِّس الرسام لقماشته وفق الأُصول.
وما يقال عن التقَيُّد بالأُصول في الفن، يقال في الطب والأَخلاق: الخروج عن القواعد في الطب يؤْذي المريض، وفي الأَخلاق يؤْذي الصورة المجتمعية.

علاقة الحرية بالأُصول
هل مَحدودية مساحة القماش تقيِّد عبقرية الرسام؟ وهل المادة اللونية تَحُدُّ من إِبداعيّته؟
أَبدًا. وهكذا الأُصول: التَقَيُّدُ بِها يَحمي الأَثَر الفنّيّ من الاندثار، وإِهْمالُها يَجعلُهُ عرضةً للتفتُّت مع الزمن. وربما هذا ما دعا أَمين نَخلة إِلى القول عن الإِبداع إِنَّ “الفنّ يَموت في الحرية، ولا يعيش إِلَّا في التَقَيُّد بالأُصول”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.