مقولة “أميركا أولًا” هل تُرَسِّخُ العُنصُرِيَّةَ والتَمّييز؟

الدكتور داوود البلوشي*

هناكَ مقولةٌ تقولُ أنَّ الانسانَ أسيرُ المفاهيم التي يحملها، حيث يعيشُ في عالمٍ من الأفكارِ والمُعتقدات التي تُشكّلُ رؤيته للحياة وتُحدّدُ طريقةَ تفاعُله مع الواقع. فالمفاهيم التي يحملها ليست مجرّدَ تصوُّراتٍ نظرية، بل هي العدسةُ التي يرى من خلالها العالم، والقيودُ التي تُحدّدُ مدى قدرته على التفكير والتطوّر. قد تكون هذه المفاهيم مُحرّرةً أو مقيّدة، دافعةً نحو الإبداع أو حائلةً دون إدراكِ آفاقٍ جديدة. من هنا، يُصبحُ الإنسان أسيرًا للمفاهيم التي يتبنّاها، سواءَ كانت صحيحةً أو خاطئة، قديمةً أو مُتجدّدة. ولا بُدَّ من معرفة كيفَ تتحكُّمُ هذه المفاهيم في حياة الإنسان؟

هناكَ مفاهيم يكتسبها الإنسان منذ طفولته تؤثّرُ في تشكّل الإدراك والتفسير على الطريقة التي يفهمُ بها الواقع. كما إنَّ المفاهيم تؤثر في القرارات والسلوك من حيث الصوابِ والخطَإِ والقوة والضعف.

والسؤال الذي لا بُدَّ من طرحه هو: من أينَ تاتي هذه المفاهيم؟ المفاهيم التي يحملها الإنسان ليست وليدةَ اللحظة، بل هي نتاجُ تفاعُلٍ مُعَقَّدٍ بين الثقافة، التربية، التجربة الشخصية، الديانات، الإعلام، والسياسات المجتمعية. بعضها يُزرَعُ في عقولِ الناس منذ الطفولة، وبعضها يُكتَسَبُ من خلال التجربة، بينما يُفرَضُ بعضُ المفاهيم عمدًا لأغراضٍ مُعَيَّنة، قد تكون لتحرير الإنسان أو لاستعباده.

الواقع أنَّ الديانات عبر التاريخ كانت من أهمِّ المصادر التي ساهمت في تشكيل المفاهيم الإنسانية، خصوصًا في ما يتعلق بالقيم والأخلاق مثل العدل، الرحمة، المساواة، الإحسان، والتسامح. في الوقت نفسه، على الرُغمِ من أنَّ الأديانَ غالبًا ما جاءت لتحرير الإنسان من الظلم والجهل، إلّا أنَّ بعضَ الجهات استخدمها عبر التاريخ لتبرير الاستبداد، سواء من طريقِ تفسيراتٍ دينية مُنحرِفة تخدُم مصالحَ فئاتٍ مُعينة، أو عبر استخدام رجال الدين كأدواتٍ لإخضاعِ الشعوب. على سبيل المثال، في بعض العصور، استُخدِمَت التفسيراتُ الدينيّة لإضفاءِ الشرعيّة على الحُكمِ المُطلَق أو التفرقة الطبقيّة.

كما إنَّ المفاهيم الإيديولوجية تُستَغَلُّ كأداةٍ للتحكُّم. في كثيرٍ من الأحيان تُصنعُ مفاهيم تُروَّجُ بين الناس بهدف السيطرة عليهم ولتبرير الاستبداد السياسي ولمنع الناس من المطالبة بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. ولا يُمكننا أن ننسـي الإعلام الحديث الذي يلعب دورًا أساسيًا في غَرسِ المفاهيم وتوجيه الرأي العام. فعبر الدعاية السياسية والإعلانية، يمكن لمراكز النفوذ التحكّم في طريقة تفكير المجتمعات. على سبيل المثال، بعضُ وسائل الإعلام يخلقُ عدوًّا وهميًّا لتبرير الحروب، أو يُصوّرُ الاستهلاكَ المُفرِط كرمزٍ للنجاح والسعادة. ومن الناحية الاقتصادية وخصوصًا الرأسمالية التي تزرع بأنَّ قيمةَ الشخص تُقاسُ بثروته والتي تشجّعُ الناسَ على السعي وراء المال بأيِّ وسيلة.

لطالما كان الإنسانُ رهينةً للمفاهيم التي يكتسبها عبر بيئته الاجتماعية والسياسية والثقافية، وهذا ما يتجلّى بوضوح في سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي تبنّى شعار “أميركا أوّلًا” ليكون حجر الأساس في نهجه السياسي. لم يكن هذا الشعار مجرّد عبارة دعائية، بل كان انعكاسًا لرؤيةٍ متكاملة للسياسة الداخلية والخارجية، تحمل في طياتها نزعةً قومية واضحة، وتمييزًا عنصريًا، وانعزالًا دوليًا إلى حدٍّ كبير.

الواقع أنَّ ترامب هو أسيرٌ لمجموعةٍ من المفاهيم القومية، الشعبوية، الرأسمالية المتطرّفة، والتمييزية، التي تشكّلت لديه من خلال نشأته العائلية، بيئته الاجتماعية، وخبراته في عالم المال والأعمال. لفهم طريقة تفكيره، لا بُدَّ من تحليل المصدر الأساسي لهذه المفاهيم، وكيف انعكست على سياساته لاحقًا.

دخل ترامب عالم الأعمال في سنٍّ مبكرة، حيث ورث عن والده إمبراطورية عقارية ووسّعها بفضلِ استثماراتٍ ضخمة في الكازينوهات والفنادق والعقارات الفاخرة. هذه البيئة زرعت فيه مفهوم “الربح فوق كل شيء”، وأصبحت كل قراراته تدورُ حول منطق المصلحة الشخصية، الصفقات، والهيمنة الاقتصادية. وهذا الفكر انعكسَ لاحقًا في سياساته الاقتصادية من خلال  تخفيض الضرائب عن الأثرياء بحجة تعزيز الاقتصاد، ما زادَ من الفجوة بين الفقراء والأغنياء. وقام بدعم الشركات الكبرى وتقليل القيود التنظيمية على الأسواق، حتى لو كان ذلك على حساب البيئة أو حقوق العمال. كما إنَّه قررَّ الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ لأنه رأى أنها تضرُّ بالشركات الأميركية، بغضِّ النظر عن تأثيرها على الكوكب.

أما بالنسبة إلى العنصرية والتمييز، فقد تبيَّنَ منذ السبعينيات الفائتة بأنَّ ترامب كان قريبًا من الخطاب الإعلامي اليميني المتطرّف الذي يُروِّجُ لفكرةِ أنَّ القيم الأميركية مُهدَّدة بالمهاجرين والسود والمسلمين، حيث كانت قناة “فوكس نيوز” المحافظة، المنصة الرئيسة لنشر نظرياته حول “أميركا البيضاء” و”المهاجرين الخطرين”. ولا شكّ أن تقرّبه من السياسيين اليمينيين منذ الثمانينيات، الذين يؤمنون بأنَّ القوة الأميركية يجب أن تكون فوق القوانين الدولية، قد أثّرَ في مواقفه العدوانية تجاه الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو). كما إنَّ إيمانه بنظرية الرجل القوي وإعجابه بكلٍّ من فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون، جعلاه يؤمنُ بأنَّ القائد القوي لا يهتم بالديموقراطية، ولكن بالقوة والسيطرة.

من ناحية أُخرى، تحوّلَ ترامب إلى أسيرٍ لنظرياتِ المؤامرة التي تتلاعب بمخاوف الطبقة العاملة البيضاء مثل التشكّك بالانتخابات والعداء للعلم والمؤسّسات الدولية، والمثال على ذلك رفض توصيات العلماء حول وباء كوفيد-19. واستغلاله لحادث ١١ أيلول (سبتمبر) 2001 لتوجيه خطاب الكراهية والعنصرية ضد المسلمين.

لا يُمكن تسمية ترامب بالسياسي التقليدي واعتباره خليط من المفاهيم التي تشكّلت لديه منذ صغره، والتي صنعت منه زعيمًا شعبويًا قوميًا رأسماليًا متطرّفًا. نشأ في بيئة محافظة وعنصرية، تأثر بعالم الأعمال الجشع، وانغمس في إعلامٍ يميني متطرّف يروِّج للخوف من الآخر. وكل هذه المفاهيم جعلته يرى العالم من منظورٍ واحدٍ “نحن ضدّهم”، وإيمانه بأنَّ أميركا يجب أن تكون فوق الجميع وأنَّ المهاجرين والأقليات خطرٌ على أميركا، وإيمانه بأنَّ الأعمالَ والمالَ أهمُّ من الأخلاق والسياسة وأنَّ القائدَ القوي لا يحتاجُ إلى ديموقراطية، بل السيطرة المطلقة.

وعلى ضوء ما جاء أعلاه، نرى بأنَّ المفاهيم التي يحملها الإنسان ليست محايدة، فهي إما تمنحه الحرية أو تسجنه داخل أنماط تفكير محددة. لو أخذنا سياسة “أميركا أوَّلًا” المُتَّبعة من قبل ترامب كأحد المحاور الرئيسة لسياسته الداخلية والخارجية، نرى أنَّ الرئيس الأميركي أصبحَ نموذجًا حيًا للإنسان الذي يقع أسيرًا للمفاهيم التي يكتسبها، بدون أن يُراجعها أو يتخلّص منها، مما جعله أحد أكثر الرؤساء الأميركيين إثارة للجدل وتأثيرًا في السياسة العالمية.

من الناحية السياسية الداخلية اعتمد ترامب منذ حملته الإنتخابية على خطابٍ قومي شعبوي يهدفُ إلى تعزيز مصالح الطبقة العاملة البيضاء، وتقديم سياسات تُعزّزُ من “الهوية الأميركية” وفقَ منظورٍ محافظ. وكان لذلك أثرٌ واضح في سياسات الهجرة، حيث سعى إلى الحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين من المكسيك،  ودعم سياسات “تفوُّق العرق الأبيض” بشكل غير مباشر من خلال امتناعه عن إدانة الجماعات العنصرية المتطرّفة في أكثر من مناسبة، والتي عززت الانقسامات العرقية في الولايات المتحدة.

أما بالنسبة للسياسة الخارجية والعلاقات مع الأمم المتحدة تبنّى ترامب سياسةً خارجية قائمة على الإنعزالية والمصلحة المباشرة للولايات المتحدة، وهو ما أدّى إلى توتر علاقات بلاده مع العديد من المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة من خلال الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ وفي الوقت نفسه تقليص الدعم المالي للمنظمات الدولية. كما هدّد بوقف التمويل عن الدول التي لا تتوافق مع سياساته ومهاجمته الأمم المتحدة مرارًا، معتبرًا أنها تعرقل السيادة الأميركية ولا تُنصِفُ واشنطن في النزاعات الدولية.

ويمثلُ موقفه من حرب أوكرانيا والتي اندلعت بعد انتهاء ولايته الاولى خير مثال على سياسة “أميركا أولًا”، حيث كانت مواقفه السابقة من روسيا والرئيس بوتين واضحة أثناء زيازة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للبيت الأبيض والذي تعرَّض لهجوم مُسيء من ترامب ونائبه جي دي فانس.

الجميع على علم بأن ترامب هو من أكثر الرؤساء الأميركيين دعمًا لإسرائيل، وسياسته تجاه القضية الفلسطينية اتسمت بالانحياز الكامل لصالح تل أبيب. فهو الرئيس الأميركي الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. وفي الوقت نفسه وبعد انتخابه للولاية الثانية أعلن عن رغبته لدوافع اقتصادية السيطرة على غزة وتهجير أهلها إلى مصر والأردن ناسيًا حل الدولتين، وانتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان والقانون الدولي.

موقفه من المنظمة العسكرية “الناتو”، في البداية أدّى التشكيك في التزامات الدفاع المشترك وانتقاده لمساهمة الدول الأعضاء في الإنفاق الدفاعي إلى زعزعة الثقة داخل الحلف. وهدد ترامب بعدم الالتزام بالمادة 5 من معاهدة “الناتو”، والتي تنص على أنَّ أيَّ هجومٍ على دولة عضو يُعتبر هجومًا على جميع الدول الأعضاء.

تُظهر سياسات الرئيس ترامب في ولايته الثانية استمرارًا للنهج الانعزالي والحمائي، مما يؤثر بشكل مباشر على الديبلوماسية العالمية، وفعالية المنظمات الدولية، واستقرار التحالفات العسكرية. هذا التوجه قد يؤدي إلى إعادة تشكيل النظام العالمي بطرق غير متوقعة، الأمر الذي يستدعي من الدول الأخرى التكيُّف مع الواقع الجديد والسعي إلى تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لمواجهة التحديات المشتركة.

  • الدكتور داوود البلوشي هو محام ومستشار قانوني عُماني. حاصل على الدكتوراه في القانون من جامعة السوربون. وهو أستاذ محاضر في جامعة السلطان قابوس في مسقط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى