في جذورِ الشِعرِ وجذوعِهِ والأَغصان

هنري زغيب*
الردود التي وصلَتْني بعد صدور الحلقات السابقة الأَربع من هذه السلسلة في “أسواق العرب” عن الشعر، دفعتْني إِلى استزادةٍ بتفصيل ما أَرى إِليه في الشعر من نُظُمٍ وأُصولٍ تعضده وتحميه من زَلَل وخَلَل ومَلَل. ومعظم ما وصلني يركّز على استنباع الجذور، واتبع الجذوع، والتجديد في الأَغصان.
وها في هذه الحلقة نفحة أُخرى تنهل من ذاك النبع.

في إشكالية الوزن
كنتُ كتبتُ أَنني أُفَرِّقُ بالإيقاع بين الشعر والنثر. والإِيقاع يفرض التوقيع. وليس كالوزن يوقِّع هذا التوقيع.
الوزن ليس ضروريًّا؟ الضروريُّ هو الشعر. الوزنُ للشاعر، كالنوتة للموسيقيّ، كاللَون للرسام، كالخشبة للمسرحيّ، كالكاميرا للسينمائي. براعةُ المبدع أَن يقدِّمَ اللحنَ الجميل ويُنْسينا النوتات التي يتأَلَّف منها، واللوحةَ الجميلة ويُنْسينا الخطوط التي تتركَّب منها، والمسرحيةَ الجميلة ويُنْسينا الخشبةَ التي تتأَطَّر ضمنها، والفيلمَ الجميلَ ويُنْسينا الكاميرا التي دخل من عينها. يعني أَن يَنسُج المبدع إِبداعه بتقْنيّته البارعة، ويُدْخِلَنا مع إِبداعه إِلى “الحالة الأُخرى”. هكذا الشاعر المبدع: براعَتُه أَن يأْتينا بقصيدة جَميلةٍ ويُنْسينا التفعيلات التي منها تتراصف الأَبيات. من هنا أَنَّ الوزنَ فخٌّ خطير: يقعُ فيه المتلطِّي خلف الوزن ليَدَّعي شِعرًا فلا يأْتي سوى بنَظْمٍ مسطَّح، ويهربُ منه غيرُ المتمكِّن والناجح فيه (فيَروح يدَّعي أَنه “حديث” غير تقليديّ، لكنه لا يأْتِي سوى بِهَذَرٍ مسطَّح). ولا يَجتاز هذا الفخَّ سوى الشاعر المتمكِّن من لعبة الأُصول، ابنِ الأَصالة الشعرية الذي ليس في حاجةٍ إِلى نبرةِ الوزن الخطابية، ولا إِلى غنائية القافية في آخر البيت، ولا إِلى حشوِ كلماتٍ وسيطةٍ كي يستقيَم له الوزن.

“الشعر أَكمل الفنون”
هذه الأَصالة الشعرية لا تكون بنتَ ساعتها. وإِذا التفعيلةُ صارت اليوم “قديمة”، فالتجديد لا يكون ابنَ الارتِجال. مع الوقت، قد تولدُ أَوزانٌ جديدةٌ وبُحور مُختلفةٌ تُثْبت قواعِدَها فتصبح نَهجًا.
الشعر، يَجزم هيغِل، هو “أَكمل الفنون”: فهو يُخاطب العين (التي بِها يكتسب الإِنسان 83% من معارفه) بِهيكليّته الأَنيقة حين يُقرَأُ بالنظر، ويُخاطبُ الأُذُن (التي بِها يكتسب الإِنسان 11% من معارفه) بِجِرْسِه وإِيقاعه حين يُبْلَغُ بالسمْع، فماذا يبقى من الشعر إِذا فَقَدَ هيكليّته الشعريّة وجِرْسه الشعريّ؟ كلمةُ “أُحِبُّكِ” مكتوبةً إِلى الحبيبة في رسالة، لَها وقْعٌ بصريٌّ، ومهموسةً في سَمْعها، لَها وقْعٌ آخر تَمامًا.
ولكن – تَمَسُّكًا أَعمى بالقديم أُصولًا وقواعد – لا نَقَعَنَّ في فخّ الهيكلية التقليدية ]فالهيكلية الشكلانية (العمودية أَو غيرها) قد تكونُ فاقدةً كلَّ مضمونٍ شعريّ[، وكذلك – تَمَسُّكًا بالشعر الموزون – ولا نَقَعَنَّ في فخّ الجِرْس فقد يكون هذا على نغميٍّة رنّانةٍ لا تعدو كونَها تطريبًا طنَّانًا فاقدًا كلَّ مضمونٍ شعريّ.

الجوهر: بلوغُ القارئ
الشاعر حرٌّ؟ صحيح. إِنَّما أَيُّ قيمةٍ لِتَحَرُّرِه إِن لَم يصل شِعرُهُ إِلى جُمهور قرَّائه ولَم يَخترق قلوب الناس؟ ما قيمة مُعاناته إِن لَم تبلغْ عمقَ مُتَلَقِّيه؟ لا قيمةَ لشِعر “حديث” ليس يصلُ إِلى جُمهور “حداثته”، ولا لشِعرٍ “معاصر” إِن لَم يتلقَّفْه جُمهور “عصره”.
الحداثةُ الحقيقيةُ أَن يكونَ الشعرُ نضِرًا في عصره ويبقى نضِرًا في كلِّ عصر. فهذا عنترةُ الجاهليُّ نضِرٌ (في عصرِهِ واليومَ وكلَّ عصر) بقَوله:
“وَوَدِدْتُ تقبيلَ السيوف لأَنَّها لَمَعَتْ كبارقِ ثغرِكِ المُتَبَسِّمِ”.
ليست الحداثة تأْريْخًا كرونولوجيًّا بل هي التواصلُ النَضِرُ من جيلٍ إِلى جيل، فيصير الشعر الأَصيلُ مثل الخمرة المعتَّقة: كلَّما مرَّ عليها الزمنُ طابَت وتَأَصَّلَتْ، وظلّت… حديثة.
التواصلُ مع الناسِ شرطٌ أَوَّلُ ونابضٌ وحَيَوِيّ. وربَّ شعراء يكونون متَرجِمين صالحين شِعرَ الغرب، إِنَّما أَين شِعرُهُم هُم لِناسِهِم وقرّائهم؟
النقد بغير سلطة
هنا تتجلَّى العلاقة الجدلية بين الشِّعر والنقد (كما بين النقد وأَيِّ فَن). كلُّ حركةٍ شعرية رافقَتْها حركةٌ نقدية. والشعر لينمو يلزمُه قارئٌ رهيف، وناقد ثقيف يُهَيِّئُ القارئ ليعرف تكاملَ القصيدة وتَمَوْقُعَها وتواصُلَها مع تراثها أَو انسلاخَها عنه.
ولا ينفع النقد حين معظمُهُ تنظيْرٌ فوقيٌّ بمثابة سُلطة، أَو موقفٌ شخصي (سَلْبِيّ أَو إيجابيّ أَو مُحايد)، أَو مجرَّد سرد انطباعي. والناقد إِجمالاً (كي لا أُعَمِّمَ فأَظلُمَ بعض الجِدِّيِّيْن) إِمَّا صديقٌ مُسْبَق أَو خصْم مُسْبَق، مدَّاحٌ سَلَفًا أَو شَتَّامٌ سَلَفًا. وهو في معظم الحالتَين غارقٌ في إِيديولوجيَّات سياسية أَو فئوية، مصنِّفٌ ذاته سلفًا في هذا المعسكر أَو ذاك، يتهجَّم على مَن لا يَتَأَدْلَجُ في معسكره.
بيروت أُوكسجين الحرية
حيث لا حريةَ، لا نقد. ولَم تكُن مصادَفَةً أَن يبكي الشعراء (غيرُ اللبنانيين) وجهَ بيروت وصدْر بيروت ومنابر بيروت (خلال سنواتِ الجمْر فيها) لأَنَّ بيروت كانت تَحتمِلُهم وتَغْفر، تتَّسع ولا تضيق بأَحد. كان وجهُها يَحتوِيْهم، وصَدرُها يَضُمُّهم، ومنابرُها ترتضيهم، حتى باتت بيروت (قبل 1975) أُوكسيجين الحرية لجميع الشعراء. ومناخ الحرية في بيروت (قبل الحرب التي أَحرقَتْها ولَم تُرَمِّدْها) كان ربيعًا دائمًا للشِعر والنقد، حتى كان الشعراء غيرُ اللبنانيين يُحسُّون لا تكتمل رجولتهم الشعرية إِلَّا إِذا نشَروا في بيروت، أو أَلقوا شعرهم في بيروت، أَو كتَبَت عنهم صحافة بيروت.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.