عندما تتصارعُ الفِيَلةُ، يموتُ العُشْبُ
السفير فيكتور الزمتر*
يحارُ المُراقبون في تحليل انقلاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على سياسة سلفه، الرئيس جو بايدن، في ما يخصُّ الملفَّ الأُوكراني، لجهة مُغازلته للرئيس فلاديمير بوتين، لدرجة تبنّي سرديته لمهاجمة أوكرانيا.
ففي حين فسَّرَ البعضُ استدارةَ الإدارة الأميركية الجمهورية على نهج سلفتها الديموقراطية، بغرض وقف الخسائر البشرية الفادحة والحدِّ من مخاطر اندلاع حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ، ردَّ البعضُ الآخرُ أنَّ الهدف هو إنهاءُ مسيرة الرئيس ترامب السياسية كصانعٍ للسلام.
ومع التسليم بما يحملُه التفسيران الآنفا الذكر من بعض أوجُه الصحة، تبدو الحقيقةُ، على الأرجح، في غير مكانٍ، جريًا على ما تستوجبُه سياسةُ تامين المصالح الإستراتيجية للدولة الأعظم من مُمارساتٍ مِكيافيليةٍ. وقد يصحُّ ردُّ الإنقلاب إلى خُطوةٍ ذكيةٍ تهدف إلى زرع الشِقاق في التفاهم القائم بين روسيا والصين، وتقويض الجهود الهادفة إلى إزاحة الدولار الأميركي عن احتكار وحدانية العُملةٍ دَوليةٍ.
فبُعَيدَ تفكُّك الإتحاد السوفياتي، انشغلَ قادةُ الرأي الإستراتيجي الأميركي بوضع المخطَّطات لإطالة تفرُّد الولايات المتحدة بزعامة العالم الآحادية، أقلُّه لمدَّة نصف قرنٍ؛ فكانَ الترياقُ كتابَ زبغنيو بريجنسكي (1)، مستشار الأمن القومي الأميركي، زمن الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر (١٩٧٧-١٩٨١)، تحت عنوان: “رقعةُ الشطرنج الكبرى: التفوُّقُ الأميركيُّ ومستلزماته الإستراتيجية”، الصادر في العام ١٩٩٧.
انطلقَ هذا الكتابُ من فرضيةٍ تقولُ بأنَّ القارَّةَ الثُنائية، أوراسيا (أوروبا وآسيا) هي قلبُ العالم، لجهة كُتلتها البشرية الأكبر والأكثر تنوُّعًا، ولجهة اكتنازِها أضخم الثروات الطبيعية وأندرِها. وعليه، يتوجَّبُ على الولايات المُتحدة إيجادَ استراتيجيةٍ شاملةٍ، تُبقيها في موقع الصدارة، وذلك بعدمِ السماح ببروز قوَّةٍ أو تحالفٍ يُسيطرُ على قارَّة أوراسيا، المنطقة الأهم على الكرة الأرضية، بما يُزيحُ الولايات المُتحدة عن زعامة العالم.
اعتبرَ بريجنسكي، أنَّ أوكرانيا هي البيدقُ الملك في رقعة الشطرنج الكُبرى، واستطرادًا، رأى أنَّ اجتذابَها إلى المُعسكر الغربي من شأنه أن يلجمَ طموحات روسيا التوسُّعية.
ولعلَّه بذلك، استلهمَ مُعادلةَ “سير هالفورد جون ماكندر” (Sir Halford John Mackinder)، الجيوسياسي البريطاني، التي تقول: “مَن يَحكُم أوروبا الشرقية، يُسيطرُ على قلب المنطقة، ومن يحكُمُها يحكُمُ جزيرةَ العالم (أوراسيا)، ومن يحكُمُ جزيرةَ العالم يُهيمنُ على العالم”.
وقد سبق للمُفكّر بريجنسكي، مطلع العام ١٩٩٤، غداةَ انتهاء الحرب الباردة، أن وجدَ في أوكرانيا القوية ثقلًا محوريًّا، كي لا نقولُ خنجرًا في خاصرة روسيا، لا يجوز لاستراتيجية واشنطن التفريطُ بعودتها إلى الحضن الموسكوبي، منعًا لبعث شهية التوسُّع الأمبراطوري الروسي.
للإنصاف، لم يأتِ بريجنسكي بجديد في مُطالعته حول الإستراتيجية الأميركية الشاملة، لتأبيد الهيمنة الأميركية على العالم، كونُه بنى مُطالعتَه على معادلة هالفورد ماكندر، بخصوص محورية أوراسيا. ويُمكن القولُ، جوازًا، أنَّه رسمَ لها المراسيم التطبيقية لوضعها موضع التنفيذ.
فعلى هُدي هذه المُعادلة ومراسيمها التطبيقية، تمَّ تزنيرُ روسيا الإتحادية بضمِّ غالبية الدول المنفصلة عن الإتحاد السوفياتي إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بالرُّغم من تعهُّدات واشنطن والغرب الأوروبي، أثناء مباحثات توحيد ألمانيا، في العام ١٩٩٠، التي نقلَها جايمس بيكر، وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق، إلى ميخائيل غورباتشوف، بأنَّ “لا بوصَة واحدة شرقًا”، تأكيدًا على عدم توسيع حلف الناتو إلى الحدود الروسية.
بعد هذه المُقدّمة، ثمَّة من يتساءل عمّا إذا كان أركان الحُكم في أوكرانيا على درايةٍ كافيةٍ بما كان يدورُ في خِلْدِ الأميركيين، من عزمٍ صلبٍ على الحدِّ من خطر نشوء قوَّةٍ أو تحالفٍ يستأثرُ بقارَّة أوراسيا؟
بل، هل من رجل دولةٍ أوكرانيٍّ تمعَّن بقول ڤلاديمير بوتين: “مَنْ لم يحزن على انهيار الإتحاد السوفياتي، يكون بلا قلب؛ ومن يُريدُ إعادتَه بحُلَّته السابقة، يكون بلا عقل؟”.
إنَّ ما حلَّ بأوكرانيا من مآسٍ لم يكن ابن ساعته، بل هو مخاضٌ تآمُريٌّ استمرَّ قُرابة عقدين من الزمن، بعد انفصال أوكرانيا عن الإتحاد السوفياتي، تمكَّنَ من شقِّ الوحدة المُجتمعية والروحية بين الروس والأوكران. وبعدَ نيلها الإستقلال، حازت أوكرانيا على جائزة شبه جزيرة القرم، المُهداة لها من قبل خروتشوف، في العام ١٩٥٤، ومع قبول روسيا باستئجار ميناء مدينة سيفاستوبول، الذي كان، مُنذ مطلع القرن التاسع عشر، الميناءَ الرئيس على البحر الأسود، تلك المدينة التي أسَّستها الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية، في العام ١٧٨٣.
الآن، بعدما أغدقت إدارة بايدن ودول أوروبا الغربية على أوكرانيا مئات مليارات الدولارات من الأسلحة، كانت النتيجةُ خسارةَ ٢٠٪ من أراضيها، فضلًا عن مئات آلاف الضحايا والجرحى وملايين المهجَّرين الهائمين على وُجوههم في دُوَل الجوار، عدا تدمير بُناها التحتية …
إلّا أنَّ الأنكى من ذلك، كان رهنَ ثروات البلاد، وعلى أجيالٍ، لنهب الدُوَل الدائنة، من دون أن يعودَ حُكّامُ “كييف” إلى رُشدهم الوطني، ووقف تمزيق وحدة البلاد. لقد كان اعترافُ رئيس أوكرانيا، ڤولوديمير زيلنسكي، الأسبوع الماضي، بأنَّه فشلَ حتى في إقناع الأميركيين بنقل العتاد العسكري للتوفير بواسطة طائرات الشحن الاوكرانية “Antonov an- 225” المشهود لها بشحن الأثقال الضخمة، بدلًا من طائرات الشحن الأميركية.
معروفٌ أنَّ الحروبَ مُناسبةٌ للتخلُّص من الأسلحة والذخيرة القديمة، وفُرصةٌ لاختبار الأسلحة الجديدة ولتسويقها .. فجميعُ العتاد الحربي، بالنوعية والكمية، مُدوَّنٌ بالأسعار المفروضة بدون نقاش. فالدعمُ العسكري الغربي ليس بالمجّان، بل بديونٍ طامعةٍ بثروات أوكرانيا.
إلى ذلك، استفاضت وكالات الإعلام بالتقارير عن تملُّك أراضٍ زراعيةٍ أوكرانيةٍ من قبل رؤوس أموالٍ أجنبيةٍ، كان لرأس المال الأميركي حصَّة الأسد، أي ما يقربُ من ثُلث أراضي أوكرانيا.
ومع تبدُّل الرياح السياسية الاميركية، يبدو أنَّ هيكلَ أوكرانيا العظمي قد أُدرجَ في بورصة التقاسُم الروسي-الأميركي، للإجهاز على ما تبقّى من أوكرانيا المُستقلَّة في العام ١٩٩١، بين أجزاء مُقتطعةٍ للدبِّ الروسي، عبر عقد سلامٍ مفروضٍ، وأخرى خاضعةٍ للعم سام، عبر توقيع عقدٍ يُجيزُ لواشنطن التنعُّمَ بمعادن أوكرانيا النادرة، بحجَّة استرداد مليارات توريد العتاد العسكري.
إنَّ صمودَ أوكرانيا بوجه دولة عُظمى تُرفعُ له القُبَّعةُ، وإن كان بدعمٍ غربيٍّ غير مسبوق. إلّا إنَّ الحكمة كانت تقتضي أن لا تُجرَّ أوكرانيا إلى ميدان صراع الفِيَلَة، كي لا ينطبقُ عليها تشبيهُ السياسيين بمثال القِردة، القائل “إذا تعاركوا، أفسدوا الزرعَ. وإذا تصالحوا، أكلوا المحصولَ”.
- الدكتور فيكتور الزمتر هو سفير لبناني متقاعد.
هوامش
(١) بولنديُّ المولد، يُفترضُ إنَّه حاقدٌ على روسيا السوفياتية لغزوها بلادَه الأم، ما اضطرَّ أهلَه إلى الهجرة إلى الولايات المُتحدة، وهو في الحادية عشر من عُمره.