دُفِن نصر الله ــ ودُفِنَت معه استراتيجية “حزب الله”؟
مايكل يونغ*
لم يَكُن هناكَ أحدٌ يَشُكُّ في أنَّ تشييعَ زعيم “حزب الله” السابق السيد حسن نصر الله يوم الأحد الفائت سوف يشكِّلُ حدثًا كبيرًا. لكن عدد الحضور لم يستطع إخفاءَ أمرٍ واضح ــ وهو أنَّ عملياتَ الدفنِ عادةً ما تكون بمثابةِ إغلاقٍ وطيٍّ لصفحةٍ قديمة وفتحِ أخرى جديدة وليست فُرصةً للتجديد. وهذا ينطبق بالتأكيد على جنازة نصر الله (والسيد هشام صفي الدين)، التي تأتي في وقتٍ يحتاج “حزب الله” إلى إعادةِ اختراعِ نفسه، ولكنه لم يبدأ حتى في التفكير في القيام بذلك.
منذ تشرين الثاني (نوفمبر)، عندما وقّعَ “حزب الله” على اتفاقِ وقفِ إطلاقِ النار مع إسرائيل الذي تفاوض عليه حليفه الرئيسي، رئيس مجلس النواب نبيه بري، استَوعَبَ الحزبُ انتكاساتٍ متتالية. الآن أصبح جوزيف عون، الرجل الذي عارضه “حزب الله” لرئاسة الجمهورية، في قصر بعبدا. وأصبح نوّاف سلام، الذي لا يؤيده الحزب أيضًا، رئيسًا للحكومة. ولم يكن اتفاق وقف إطلاق النار في حدِّ ذاته أقل من استسلام، وادّعاءات الأمين العام الجديد، الشيخ نعيم قاسم، بأنَّ “حزب الله” انتصرَ في الحرب، تبدو سخيفة.
على ضوءِ هذا، فقد اعتُبِرَ حفلُ تشييع نصر الله بمثابة وسيلة ل”حزب الله” وأنصاره بين الطائفة الشيعية لإعادة تأكيد وجودهم. وهذا أمرُ مفهوم تمامًا، ولكنه أيضًا مُضَلِّلٌ إلى حدٍّ ما، حيث لا يُفكّرُ أحدٌ في لبنان بجدية في إبعاد الشيعة عن المشهد السياسي.
وما لم ينخرط فيه “حزب الله”، أو لم ينخرط فيه بعد، هو مناقشة داخلية حول مستقبل أسلحته. ومنذ أعلن الرئيس عون في خطاب تنصيبه في كانون الثاني (يناير) الفائت أنَّ الدولة اللبنانية لا بُدَّ أن تحتكرَ الأسلحة، ظلَّ الحزبُ صامتًا بشأن هذه المسألة، راغبًا في تجنُّبِ المواجهة مع رئيس الجمهورية.
مع ذلك، فمن الواضح على نحوٍ مُتزايد أنه في غيابِ استراتيجيةٍ إقليمية تجعل الأسلحة ذات أهمية، سيظل “حزب الله” يواجه صعوبة كبيرة في تبرير الاحتفاظ بها. ومن غيرِ المُرَجَّحِ إلى حدٍّ كبير أن يكونَ الحزبُ في وَضعٍ يسمحُ له باستخدامها ضد إسرائيل، لأن معقله في جنوب لبنان لن يتحمّل لفترة طويلة ردًّا إسرائيليًا جديدًا ومدمِّرًا.
فما الذي تبقّى إذن؟ الاحتفاظ بالأسلحة لتحويلها ضد اللبنانيين وتأمين السلطة والهيمنة في الداخل مرةً أخرى؟ لكن من غير المرجح أن تنجحَ هذه المحاولة أيضًا، لأنَّ المزاجَ السائد في البلاد عدائيٌّ إلى حدٍّ كبير تجاه “حزب الله”. وأيُّ جهدٍ من جانب الحزب لترهيب منافسيه من شأنه أن يؤدّي على الأرجح إلى صراع، في سياقٍ أصبح فيه “حزب الله” معزولًا. وعلاوةً على ذلك، فمنذ سقوط حليفه بشار الأسد في سوريا، لن تكونَ لدى الحزب أيُّ وسيلةٍ لإعادةِ إمدادِ نفسه.
في واقع الأمر، إذا لم تَعُد الأسلحة تخدُمُ غرضًا، فقد يكون الوقت قد حان لقادة “حزب الله” ليسألوا ما إذا كان من الأفضل تأمين أهداف سياسية داخل لبنان من خلال التوصّل إلى اتفاقٍ مع الدولة بشأن نزع السلاح. وهذا من شأنه أن يُمثّلَ ثورةً داخل الحزب، لكنه أمرٌ منطقي في ضوء انهيار استراتيجية إيران لتطويق إسرائيل بجهاتٍ فاعلة غير حكومية مُعادية.
الحقيقة أنَّ المشكلة الكبرى التي تواجه “حزب الله” تكمنُ في أنَّ إيران اليوم لم تَعُد موجودة في أيِّ مكانٍ في لبنان. والاقتصاد الإيراني في أزمةٍ شديدة لدرجةِ أنه لا يستطيع توفير المال للمساعدة على إعادة بناء المناطق الشيعية اللبنانية المدمَّرة. وبالتالي، فقد تعرَّضَ العقدُ بين إيران وحلفائها في “حزب الله” للتقويض بشكلٍ خطير، وَسطَ تصوُّرٍ بين الكثيرين من أفرادِ المجتمع الشيعي بأنَّ طهران استخدمتهم كوقودٍ للمدافع، من دون أيِّ فائدةٍ لهم.
ورُغمَ أنَّ إيران ربما تكون غائبة عن جهودِ إعادةِ الإعمار، فإنَّ كلَّ الدلائل تُشيرُ إلى أنها سيطرت فعليًا على “حزب الله” منذ اغتيال إسرائيل نصر الله وخليفته السيد هاشم صفي الدين والرجل الذي اعتبره كثيرون الثالث في ترتيب الخلافة، نبيل قاووق، الذي كان نائبًا لرئيس المجلس التنفيذي للحزب. ويُزعَمُ أنَّ الإيرانيين هم الذين عيّنوا قاسم بعد مقتل الشخصيات الثلاث، رُغمَ أنَّ كثيرين ينظرون إليه باعتباره واجهة باهتة لنفوذ إيران.
وهناكَ سؤالٌ آخر يفرضُ نفسه الآن وهو ما إذا كان “حزب الله” مُوَحَّدًا عندما يتعلّقُ الأمر بقبولِ اتفاق وقف إطلاق النار. فقد وردت تقارير، فضلًا عن مؤشّرات، تشير إلى وجودِ اختلافاتٍ في الرأي داخل الحزب حول كيفية التعامل مع المرحلة المقبلة. ويتجنّب قاسم في الوقت الحالي الصراعات الداخلية، في حين وردت تقارير عن اتخاذ مجموعة أصغر سنًّا من نشطاء الحزب إجراءات أكثر عدوانية، بما فيها الانخراط أخيرًا في تكتيكات الترهيب على دراجات بخارية وحرق مركبات الأمم المتحدة على طريق المطار.
ومن غير المرجح أن يؤدّي هذا إلى حدوث انقسام في “حزب الله”، وخصوصًا إذا احتفظت إيران ببعض السيطرة عليه، ولكن هذا يُظهِرُ ارتباكًا في وقتٍ حسّاس. لهذا السبب، من المرجح جدًا أن ينظر قادة الحزب إلى تشييع نصر الله باعتباره مناسبة لتوحيد صفوف “حزب الله” حول ذكرى شخصيته المهيمنة على مدى ثلاثة عقود.
لكن هذا لن يكونَ كافيًا. بدونِ وضوحٍ من جانب إيران بشأن مستقبل الحزب، سيظلّ “حزب الله” في منطقةٍ غير واضحة ومجهولة، غير متأكد من الاتجاه الذي سيتخذه في ما يتصل بأسلحته، وما هو أبعد من ذلك، في ما يتصل بهويته ذاتها. وقد يختلف الإيرانيون أنفسهم حول هذا الأمر، حيث يلعب دعم “حزب الله” دورًا في السياسة الفصائلية الإيرانية. كل ما يبدو مؤكدًا اليوم هو أنه ما لم يتم حلُّ مثل هذه القضايا، فإنّ الحزبَ سيستمر في الانجراف.
كان مقتل السيد حسن نصر الله بمثابةِ ضربةٍ قوية وقاصمة ل”حزب الله”، ومن المؤكد أنَّ الراحل قد فهم وأدرك في وقتٍ مبكر المخاطر في قرار الحزب بدعم غزة بعد هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 على إسرائيل. إذا كان الأمر كذلك، فقد انتهى به الأمر إلى الوقوع في فخِّ استراتيجيةٍ انتحارية. ومع دفنه، يتمُّ دفن هذه الاستراتيجية -إحاطة إسرائيل بحلقة من النار- أيضًا. ما لم يتمكّن “حزب الله” من إعادة تشكيل واختراع نفسه بسرعة، فإنَّه يخاطر بالسير في الطريق نفسه.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.