“حزبُ الله” والتجديدُ الوطني في لبنان
كل ما فعلته هزيمة “حزب الله” أمام إسرائيل هو خلقُ فرصةٍ لوضع الأساس للدولة التي نريدها حقًا، والتفكير في آليةٍ يُمكنها تحييد الطبقة السياسية التي تُريد أن تظلَّ الأمور على ما هي عليه. ليس بالأمرِ السيّئ أن يجدَ لبنان نفسه فجأةً يُركّزُ على الفكرة الكبرى المُتمثّلة في التجديد الوطني.

مايكل يونغ*
لا شكَّ أنَّ بيان حكومة الرئيس نوّاف سلام، الذي يجب أن يوافق عليه البرلمان في وقتٍ لاحق من الأسبوع المقبل، هو علامةٌ أخرى على أنَّ الكثير قد تغيّر في الطريقة التي يتعامل بها “حزب الله” مع الحقائق الجديدة في لبنان. لا يذكرُ البيان ثُلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”، والتي وضعَت “حزب الله” منذ فترة طويلة على مستوى الجيش اللبناني نفسه. اليوم، أكّد كلٌّ من رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون والحكومة بقيادة القاضي نوّاف سلام، لأوّل مرة، “حق الدولة في احتكار حمل السلاح”.
أين يضع هذا الأمر “حزب الله” والمجتمع الشيعي بشكلٍ عام؟ الجوابُ مُتناقِض، وفي كثيرٍ من النواحي فإنَّ لبنان أفضل بسببِ ذلك. الشيعة على قيد الحياة وبحالةٍ جيدة وهم ما زالوا مكوِّنًا رئيسًا في المشهد الطائفي في البلاد، كما ينبغي لهم أن يكونوا. لكن “حزب الله” مشلول، ولا توجد لديه رؤيةٌ إقليمية أوسع لتبرير الاحتفاظ بأسلحته. إنَّ الراعي الرئيس، إيران، تُركّز الآن على إنقاذ نفسها مما قد يتحوّل قريبًا إلى عاصفة كاملة من التحدّيات الحرجة: ضربة إسرائيلية ضد منشآتها النووية؛ والعقوبات الأميركية المتزايدة التي لن تُرفع إلّا إذا فكّكت طهران برامجها النووية والصاروخية وقدمت تنازلات عندما يتعلق الأمر بشبكتها الإقليمية من الحلفاء والوكلاء؛ وربما الأكثر خطورة، مسألة الخلافة بعد وفاة آية الله علي خامنئي، الأمر الذي قد يتطلّب فرض خليفة غير شعبي على نظامٍ أصبحت شرعيته واستمراريته موضع تساؤل متزايد من قبل العديد من الإيرانيين.
الواقع أن الكثيرين من أنصار “حزب الله” يُدركون الآن أنه لن يكونَ هناك تمويلٌ إيراني كبير لإعادة بناء ما دمّرته إسرائيل في صراعها مع الحزب في العام الفائت. وعندما أعلن الأمين العام ل”حزب الله”، الشيخ نعيم قاسم، في السادس عشر من شباط (فبراير) أنَّ “الدولة لا بُدَّ أن تقود جهود إعادة الإعمار” لأنَّ “ما دمّرته إسرائيل دمّرته في الدولة اللبنانية”، فقد أكّدَ بشكلٍ غير مباشر أنَّ أتباعَ “حزب الله” لا ينبغي لهم أن يعتمدوا على طهران لدفع تكاليف إعادة الإعمار. كما أثارَ غضبَ العديد من اللبنانيين الذين سئموا ببساطة التضحية من أجل إعادة بناء ما يواصل الحزب تدميره في حروبه.
كان الخطأُ الكبير في حسابات “حزب الله” وغطرسته هو فتح ما يسمى “جبهة الإسناد” لغزة في حين تجاهلَ ببساطة أنه لم يكن لديه أيُّ دعمٍ محلّي لمثل هذا العمل المُتهوِّر. واليوم، أصبح العداء بين معظم اللبنانيين لغطرسة “حزب الله” واسع النطاق، والآن يجد الحزب ومجتمعه الأوسع أنفسهما معزولَين. لم يكن هذا هو الحال دائمًا. في العام 2005، أدرك “حزب الله” أنَّ الانسحابَ السوري يُهدّد قوته، فتجنّبَ العُزلة من خلال فتح قنوات مع “التيار الوطني الحر” بقيادة ميشال عون. وقد سمح له هذا بشنِّ هجومٍ مُضاد ضد النظام اللبناني ما بعد السوري الذي يُجسّده تحالف 14 آذار وفرضَ هيمنته على البلاد، وخصوصًا بعد انتخابات العام 2009 وإطاحة سعد الحريري في العام 2011.
لم يَعُد هذا المسارُ مُمكِنًا مع زعزعة استقرار “حزب الله” وإضعافه، وخسارة سوريا من “محور المقاومة”، وإدارة لبنان من خلال شكلٍ فعلي من أشكال الوصاية الإقليمية والدولية. لقد فشل مشروع إيران المتمثّل في تسليح وتعزيز شبكة إقليمية واسعة النطاق من الجهات الفاعلة غير الحكومية لتعزيز مصالحها وتطويق إسرائيل بحلقة من النار. مات إثنان من مُنظّري هذا المخطّط، السيد حسن نصر الله، الأمين العام السابق ل”حزب الله”، وقاسم سليماني، الرئيس السابق ل”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإسلامي الإيراني. لكن إيران لا تملك المال الكافي لإحياء قلعة الرمال هذه، التي رسّخت وجودها في مجتمعاتٍ عربية غير مستقرّة ومجزَّأة، مما أثار الكثير من الاستياء بسبب تحويل بلدانها إلى مساحاتٍ شاسعة من الدمار.
في هذا السياق، ما هي القيمة التي لا تزال لسلاح “حزب الله”؟ هل يمكن استخدامه ضد إسرائيل؟ ليس واقعيًا. ولكن ماذا إذن، هل يمكن استخدامه ضد مواطنيه اللبنانيين؟ لقد حاول الحزب ذلك في العام 2008، وأحدث عداءً مستمرًّا لم يتمكّن قط من التغلّب عليه، بحيث يؤدّي هذا النهج اليوم فقط إلى صراعٍ مسلّح يُسيء إلى سمعة “حزب الله” بشكلٍ دائم ويُقسِّم مجتمعه، حيث لا يريد الكثيرون من الشيعة قتالَ مواطنيهم. وبالفعل، فإنَّ تكتيكات الترهيب التي تتبنّاها مجموعاتٌ من شباب الشيعة الذين يركبون الدراجات البخارية عبر مناطق لبنانية لا يُسيطر عليها الحزبان الشيعيان الرئيسيان أتت بنتائج عكسية قبل بضعة أسابيع، حيث تعرّضوا للهجوم من قبل السكان المحليين في مناطق عدة. كما تسبّب قرار حرق مركبات اليونيفيل في نهاية الأسبوع الماضي في إحراج “حزب الله” و”حركة أمل”، على الرُغم من أنه ليس من الواضح ما إذا كان “حزب الله” شجّعَ على ذلك أو ما إذا كان الحزب لم يَعُد يُسيطر على مجتمعه بالقوة عينها التي كان يُسيطر بها عليه في السابق.
إذن، بينما نستعرضُ هذه الحالة الكئيبة، ما هي الخيارات المُتاحة أمام المجتمع الشيعي؟ في كلِّ مكانٍ يَنظرُ إليه الشيعة، فإنَّ الأوراق مُكدَّسة ضدّهم. في سوريا المجاورة، تشهد المنطقة صحوةً سنّية بعد نحو 62 عامًا من حكم الأقلية العلوية. والبطل الإقليمي الرئيس اليوم هي تركيا، التي حققت تقدّمًا كبيرًا في المشرق العربي وآسيا الوسطى. ولا شك أنَّ هذا سوف يؤثر في الديناميكيات في لبنان. والواقع أنه لا ينبغي لنا أن نتفاجأ إذا ما وجد الشيعة قريبًا قضيةً مشتركة مع المسيحيين في البلاد، في تحالفٍ سياسي دفاعي لموازنة السنّة.
ربما يكون الوقت مناسبًا الآن لكي يبدأ زعماء لبنان التفكير في تنظيمِ مُنتدى وطني حول مستقبل البلاد والعلاقات الطائفية، وهو المنتدى الذي يهدف إلى وضعِ عقدٍ اجتماعي جديد ليحلّ محل النظام اللبناني المُختَل. ولا يوجد سوى نصٍّ واحدٍ يمكن أن يُشكّلُ أساسًا لمثل هذه المناقشة، ألا وهو اتفاق الطائف لعام 1989، حتى ولو كان الهدف هو تجاوز هذا الاتفاق وتحديثه. وبما أنَّ كلَّ الطوائف الكبرى ــالسنة والدروز والموارنة والشيعةــ واجهت في وقت من الأوقات هزائم حاسمة بسبب تحالفاتها مع جهاتٍ فاعلة خارجية، فإنَّ القوة الدافعة لمثل هذا المسعى تتمثّل في التوحُّد حول مبدَإِ لبنان أوّلًا للجميع.
إننا نستطيع أن نتساءل ما إذا كانت الطبقة السياسية في البلاد، والتي تشكل خزّانًا ثابتًا للجمود المُعطِّل، قادرةً على قيادة مثل هذا البعث والتجديد للجمهورية. ولحسن الحظ، ربما، نحن في مرحلةٍ انتقالية في قيادة البلاد. إنَّ زعماء الميليشيات القدامى الذين نقلوا هيكل السلطة من زمن الحرب إلى زمن السلم في العام 1990 في طريقهم إلى الخروج، أو يسلّمون السلطة لأبنائهم، أو ماتوا. قد يكون خلفاؤهم سيئين مثل آبائهم، ولكن من ناحية أخرى قد لا يكونون كذلك. إنَّ النظام السياسي الذي ورثوه ليس نظامهم الحقيقي، وقد يكون إغراءُ النجاح بعد عقودٍ حيث أصبح لبنان دولة شبه فاشلة أكثر مما يستطيعون مقاومته.
في كتابٍ كتبتهُ قبل عقد ونصف، قلت هذا عن “حزب الله” والشيعة: “إنَّ “حزب الله” هو نتيجةٌ وعاملٌ مُعَزِّزٌ لعَجزِ لبنان عن تشكيل دولةٍ قوية. لكن قد يكون هناك مفارقة في المستقبل: فالحزب، من خلال عكس حدود الدولة ومجابهتها بكل وقاحة، قد يجبر هؤلاء اللبنانيين الذين يشعرون بعدم الارتياح تجاه “حزب الله” على التفكير بشكلٍ أكثر دقة في الدولة التي يريدونها حقًا، وإيجاد السُبُل لجذب أغلبية الشيعة إلى مشروعٍ يُلبّي تطلّعاتهم ويشجعهم على النظر إلى ما هو أبعد من “حزب الله””.
إنَّ الاقتباسَ من الذات قد يكون مُبتذَلًا، لكنه يُظهِرُ أنَّ انشغالات لبنان لم تتغيّر كثيرًا. فليس كافيًا أن نرسم خطًّا فاصلًا بين “حزب الله” والقول إنَّ مشاكل البلاد قد انتهت. كل ما فعلته هزيمة الحزب أمام إسرائيل هو خلقُ فرصةٍ لوضع الأساس للدولة التي نريدها حقًّا، والتفكير في آليةٍ قادرة على تحييد الطبقة السياسية التي تريد أن تظلَّ الأمور على ما هي عليه. وليس من السيّئ أن يجدَ لبنان نفسه فجأةً يُركّزُ على الفكرة الكبرى المُتمثّلة في التجديد الوطني.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.