فُرصَةُ أميركا التاريخيِّة في الشرقِ الأوسط

لا ينبغي لأحد أن يُقلِّلَ من شأن التحدّيات والمخاطر التي لا تزال تلوح في الأفق في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لكن لدى دونالد ترامب نفوذ خاص، والذي يجب أن يستخدمه بحكمة.

هل يستطيع ترامب التوصل إلى اتفاقٍ مع إيران ويمنع إسرائيل من ضرب المفاعلات النووية الإيرانية؟

فيليب غوردون*

لعقود، كان الشرق الأوسط المنطقة التي تموت فيها الطموحات الديبلوماسية. على الأقل منذ ترك الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) منصبه في أعقاب حرب الخليج، انتهى الأمر بالرؤساء الأميركيين المتعاقبين، غالبًا بعد فتراتٍ عابرة من الأمل، إلى تركِ المنطقة في حالة أكثر خطورة مما كانت عليه عند دخولهم البيت الأبيض.

كانت لدى بيل كلينتون آمالٌ كبيرة في اتفاق سلامٍ تاريخي بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ لقد نجح في تقريب الطرفيَن في كامب دايفيد في العام 2000، فقط ليرى رئاسته تنتهي بانهيار المحادثات وبداية الانتفاضة الثانية القاتلة. بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 على الولايات المتحدة، نجح جورج بوش (الإبن) في إطاحة نظام صدام حسين في العراق تحت شعار “تحويل” المنطقة، فقط ليرى هذا المشروع يتحوّل إلى مستنقعٍ قتلَ الآلاف من الأميركيين ومَكّنَ إيران. في العام 2011، سعى باراك أوباما إلى اغتنامِ فرصة “الربيع العربي”؛ ورُغمَ أنه تفاوضَ على اتفاقٍ نووي مع إيران، فإنَّ تطلّعاته إلى الديموقراطية والتعاون الإقليمي تقوّضت بسبب الانقلاب الدموي في مصر، وصعود تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في العراق، واندلاعِ حربٍ أهلية مدمِّرة في سوريا. في ولايته الأولى، كان دونالد ترامب يأمل أن يؤدّي الانسحاب من الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما وقتل قائد “فيلق القدس” الجنرال قاسم سليماني إلى الحدّ من التهديد الإيراني، ولكن عندما ترك منصبه في العام 2017، كانت إيران تُوسّع برنامجها النووي وتستخدم وكلاء وعملاء لمهاجمة القوات الأميركية وكذلك جيرانها. وأخيرًا، تجنّب جو بايدن، مع وضع إخفاقات الماضي في الاعتبار، التطلّعات الكبرى وركّزَ على تحقيق الاستقرار في المنطقة، فقط ليرى عامه الأخير في منصبه مُستَهلَكًا في عواقب الهجمات الإرهابية على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وأهوال الحرب في غزة التي أعقبت ذلك.

في ظلِّ هكذا تاريخ، قد يبدو من الحماقة التَخَيُّلُ أنَّ الشرقَ الأوسط اليوم قد يُثبتُ أنّهُ أيُّ شيءٍ آخر غير مَصدَرٍ للمتاعب لرئيسٍ أميركي جديد. بل إنَّ السنوات الثلاثين الماضية أثبتت أنَّ الشرق الأوسط من المستحيل تجاهله، وأنه لا يفشلُ أبدًا في إثارةِ الدهشة، وأنه مهما بدا الوضع سيّئًا فإنه قد يزداد سوءًا دائمًا. ومع كلِّ المشاكل والمخاطر الحقيقية التي تواجهها المنطقة، فإنَّ ترامب يرثُ في الواقع سلسلةً من الفُرَص. وفي بعض النواحي، قد يكون في وَضعٍ جيد للاستفادة منها – وهو أمرٌ أقرُّ به حتى بصفتي ناقدًا قاسيًا لترامب وكمستشار الأمن القومي السابق لنائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس. إلى جانب المشهد الاستراتيجي الجديد الذي ورثه، فإنَّ طبيعة ترامب غير المُتَوَقَّعة قد تمنحه نفوذًا مع إيران وإسرائيل ودول الخليج، من بين دولٍ أخرى. وقد يستطيع بسهولة بَيعَ السياسات التي يريدها للكونغرس -مثل الاتفاق النووي مع إيران- وهو أمرٌ لم يستطع رئيسٌ ديموقراطي فعله.

لا شكَّ أنَّ ترامب قادرٌ بشكلٍ فريد على مُفاقَمة مشاكل المنطقة، وقد فعل ذلك بالفعل من خلالِ اتّخاذِ قرارٍ بخفضِ المساعدات الأميركية الحيوية للمنطقة ودعوته إلى إخلاء غزة من الفلسطينيين والاستيلاء عليها. وسوف يعتمدُ مصير الشرق الأوسط على مدى السنوات الأربع المقبلة إلى حدٍّ كبير على ما إذا كان ترامب سيتمكّن من الاستفادة من هذه الفُرَصِ الاستراتيجية أو يهدرها بدلًا من ذلك بدوافعه المُتَهَوِّرة.

صفقة جديدة

الفُرصةُ الأولى التي ورثها ترامب هي مع إيران، التي كانت لعقود في قلب مشاكل الشرق الأوسط. اليوم، أصبحت طهران أضعف -وربما أكثر عُرضةً للضغط- مما كانت عليه منذ الثورة الإيرانية في العام 1979. تم إضعاف أو القضاء عسكريًا على اثنين من وكلائها الإرهابيين الرئيسيين:”حزب الله” في لبنان و”حماس” في غزة. أثبت أسطولها من الصواريخ الباليستية، الذي كان لفترة طويلة خطًّا ثانيًا للردع إلى جانب هذين الوكيلين، عدم فعاليته ضد الدفاعات الجوية الإسرائيلية التي تدعمها الولايات المتحدة وقوات إقليمية أخرى. سوريا، الشريك الإقليمي الرئيس لإيران، لا يديرها الآن حليف إيران بشار الأسد ولكن يحكمها تحالفٌ مُناهضٌ لإيران حَرَم طهران من جسرها البري إلى لبنان. أثبتت الدفاعات الجوية الإيرانية أنها غير فعّالة للغاية ضد الضربات الجوية الإسرائيلية في خريف العام 2024 لدرجة أنَّ إيران شعرت بالضعف الشديد لدرجة أنها لم تُحاول حتى الرد. ولكن في الوقت نفسه، فإنَّ الاقتصاد الإيراني، الذي دمّرته سنوات من سوء الإدارة، والعقوبات الأميركية والدولية، وفترة انخفاض أسعار النفط، يتعرّضُ لضغوطٍ هائلة ــ وهو بالكاد يُشكل الأساس لمعالجة الفجوات الجديدة في قدرات الردع والدفاع.

في ظلِّ هذه الظروف الجديدة، ليس من المستغرب أن يبدأ القادةُ الإيرانيون الإشارة إلى الانفتاح على اتفاقٍ نووي جديد، لأنَّ البدائل لمثل هذه الصفقة بالنسبة إلى إيران أسوأ من أيِّ وقت مضى. فقد انتُخِب الرئيس مسعود بزشكيان في العام 2024 على أساس برنامجٍ يهدفُ إلى تحسين الاقتصاد، والطريقة الوحيدة المُمكنة لتحقيق هذا الهدف هي التوصّل إلى اتفاقٍ ديبلوماسي مع الولايات المتحدة وتخفيف العقوبات. ورُغمَ أنَّ المرشد الأعلى علي خامنئي، المتشدّد والمتشكّك منذ فترة طويلة في المحادثات، يظلُّ صانع القرار النهائي، إلّا أنه يعرف أنَّ قدرة إيران على ردع الضربات العسكرية على برنامجها النووي أو البنية الأساسية للطاقة ــالتي تعتمد على الوكلاء، والضربات الصاروخية الباليستية ضد إسرائيل، والدفاع الجوي المحلي ــ قد انخفضت بشكلٍ كبير. الواقع أنَّ القادة الإيرانيين يُدركون أيضًا أنَّ استعدادَ الولايات المتحدة وإسرائيل لشنِّ ضرباتٍ هجومية قد زاد في ظلِّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الجريء وترامب الذي لا يُمكِنُ التنبؤ بتصرّفاته.

وقد أشار ترامب إلى اهتمامه بالتوصُّل إلى اتفاق، وقد يؤدّي المشهد الاستراتيجي الجديد إلى دفع إيران إلى وضعِ المزيد على الطاولة مما كان مُتَصَوَّرًا في السابق. وتشمل التنازلات، التي لم تكن واقعية في الماضي ولكنها قد تكون واقعية اليوم، فرض قيود صارمة على مستويات التخصيب النووي، وشروط بدون تواريخ انتهاء الصلاحية، وقيود على الصواريخ الباليستية، وحتى قيود على التدخّل الإقليمي الإيراني (بما أنَّ وكلاء وعملاء إيران ضعفوا إلى هذا الحد على أيِّ حال). وقد يمنع الاتفاق الجديد حتى برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني المحلّي من خلال السماح لإيران بالوصول إلى بنك الوقود النووي الدولي؛ ومن شأن مثل هذا الإعداد أن يسمح لطهران بالزعم بأنها حافظت على حقّها في الاستفادة من إنتاج الطاقة النووية المدنية، كما يسمح لترامب والحكومة الإسرائيلية بالقول إنهما حرمتا إيران من السيطرة على التخصيب.

وحتى في ظل الظروف الاستراتيجية الجديدة، ستكون هناك حدودٌ للتنازُلات الإيرانية، وقد يتجاوز ترامب حدوده بسهولة ــ أو حتى يسعى إلى تغيير النظام في طهران. ولكن جاذبية الاتفاق الذي يمنع إيران بشكلٍ يُمكنُ التحقُّق منه من تطوير سلاح نووي ويحدُّ من نفوذها الإقليمي لا بدَّ وأن تكون واضحة، والواقع أن الجمع بين ضعف إيران والتهديد المتزايد المصداقية من جانب الولايات المتحدة باستخدام القوة يجعل الاتفاق أكثر واقعية من أيِّ وقتٍ مضى. وإذا تمكّن ترامب من التفاوض على مثل هذا الاتفاق، فقد يتفاخر بالحصول على “صفقة أفضل” من تلك التي توصل إليها أوباما، ثم يبيع هذه الصفقة للكونغرس بسهولة.

الحرب والسلام

الفرصة الثانية التي تسنح لترامب في المنطقة هي إنهاء الحرب في غزة ــوهي أكبر انتكاسة للسلام والاستقرار في المنطقة منذ حرب العراق ــ وبدء العملية الطويلة المتمثلة في استقرار “اليوم التالي”. منذ الهجوم المروّع الذي شنّته “حماس” على إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، والاستجابة الإسرائيلية اللاحقة، كان الوضع في غزة مأساة لا يمكن تفسيرها. ولكن وقف إطلاق النار واتفاق الرهائن الذي تم التوصّل إليه بين إسرائيل و”حماس” في الخامس عشر من كانون الثاني (يناير) الفائت، بعد أشهرٍ عديدة من الجهود الفاشلة وبمساعدة فريق ترامب المقبل، يُوفّرُ مسارًا مُحتمَلًا لإنهاء الحرب أخيرًا. فبعد خمسة عشر شهرًا من الدمار والمُعاناة غير المَسبوقَين، علّقت إسرائيل العمليات العسكرية الكبرى، وبدأت “حماس” إطلاقَ سراح الرهائن، وبدأ سكان غزة العودة إلى أحيائهم.

المرحلةُ الأولى من وقفِ إطلاق النار محدودة في الوقت والنطاق، ومن غير المضمون أن تستمر. إنَّ الوصول إلى المرحلة الثانية سوف يتطلّبُ اتخاذَ قراراتٍ أكثر صعوبة بشأن إطلاق سراح الرهائن (بمَن فيهم الجنود الإسرائيليين)، وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين لدى إسرائيل، وفي نهاية المطاف مصير “حماس”. في الوقت نفسه، كانت صور الرهائن الإسرائيليين الهزيلين الذين تمَّ إطلاقُ سراحهم في الثامن من شباط (فبراير) بمثابة تذكيرٍ صارخ لإسرائيل بضرورة التوصُّل إلى اتفاقٍ بشأن المرحلة الثانية، قبل أن يموت المزيد من الرهائن. كما يتعيّن على “حماس” أن تُدرِكَ أنَّ نهايةَ الاتفاق لن تنتهي بخير بالنسبة إلى المنظمة. فقد هدّدَ ترامب “حماس” بـ”الجحيم” إذا رفضت الصفقة، وتعرف المجموعة أنَّ “فرسانها”، من “حزب الله” وإيران، لن يصلوا – وهو السبب الرئيس وراء موافقتها على وقف إطلاق النار وصفقة الرهائن في المقام الأول.

إذا تمكّن ترامب من المساعدة على تمديد الاتفاق بين إسرائيل و”حماس”، أو حتى منع تجدد القتال، فسوف تُتاحُ له الفرصة لبدء وضع اللبنات الأساسية لتحقيقِ قدرٍ ضئيل على الأقل من الاستقرار في غزة والضفة الغربية، وفي المدى الطويل، لاتفاق “التطبيع” الذي طالما طال انتظاره بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وتوسيع اتفاقيات أبراهام التي تفاوض عليها في ولايته الأولى. إنَّ هذه الرؤية التاريخية لا تتطلّب فقط إنهاء الحرب في غزة، بل تتطلّبُ أيضًا التزامًا إسرائيليًا بمسارٍ يؤدّي إلى دولة فلسطينية. ومن المؤكد أنَّ مثلَ هذا الالتزام يصعبُ تصوّره في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، لكنه ربما لا يكون مُستَبعَدًا تحت ضغطٍ من ترامب، الذي سيكون في وضعٍ فريد من نوعه للتأثير على إسرائيل، خصوصًا إذا رأى في القيام بذلك أنه يشكّل طريقًا إلى جائزة نوبل.

ولكن هناك أيضًا أهدافًا أكثر واقعية ومحدودية ينبغي لترامب أن يكون في وضع جيد للتقدُّم بها إذا كان راغبًا في ذلك: المطالبة بإصلاحٍ حقيقي للسلطة الفلسطينية مع رحيل الرئيس محمود عباس البالغ من العمر 89 عامًا عن المشهد؛ وإقناع إسرائيل بقبولِ دورٍ للسلطة الفلسطينية في حُكم غزة بعد الحرب، وهو الدور الذي قد تتسامح معه بقايا “حماس” كبديلٍ من مزيدٍ من الإبادة؛ وإقناع دول الخليج العربي، التي تحرصُ على البقاء على علاقة جيدة مع الإدارة الأميركية، بتقديم الدعم السياسي وأموال إعادة الإعمار، وربما قوات الأمن لدعم اتفاق السلام. وسوف تظل المشاكل والتحدّيات هائلة حتى مع مثل هذا التقدم، لكنها سوف تتضاءل مقارنةً بالدمار والانقسامات والمُعاناة التي سبقت اتفاق وقف إطلاق النار. وسوف يحصل ترامب على الثناء، ويستحقّه.

التطلُّع إلى لبنان

ورث ترامب أيضًا الفرصة في لبنان، التي بدت آفاقها قاتمة حتى قبل الحرب بين إسرائيل و”حماس”، ولكنها ساءت بشكلٍ واضح عندما وجّهت إسرائيل قواتها ضد “حزب الله”، ما أدى إلى سقوط الآلاف من الضحايا وعشرات الآلاف من المدنيين النازحين. لقد عانى لبنان لعقود تحت قبضة “حزب الله”، ومنذ العام 2011، غمرته الحرب في سوريا بأكثر من مليون لاجئ. ولكن مع إضعاف “حزب الله”، أصبحت البلاد أخيرًا لديها فرصة لتحرير نفسها من قبضة إيران وإقامة دولة أكثر وظيفية وسيادة.

تنبع هذه الفرصة من الخسائر الهائلة التي تكبّدها “حزب الله” منذ ارتكب خطأ خوض الحرب مع إسرائيل في أعقاب هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر). على الرُغم من أنَّ البعضَ في إسرائيل كان يريدُ إطلاق عملية عسكرية كبرى ضد “حزب الله” منذ البداية، إلّا أنَّ بنيامين نتنياهو أحجم، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى الضغوط من إدارة بايدن لتجنُّب التصعيد الإقليمي. ولكن مع استمرار هجمات “حزب الله” في شمال إسرائيل في منع عشرات الآلاف من الإسرائيليين الذين تمَّ إجلاؤهم من العودة إلى ديارهم، فقدت إسرائيل صبرها. في الأشهر الأخيرة من العام 2024، أدت الضربات العسكرية الإسرائيلية المتصاعدة على “حزب الله” –بما في ذلك هجمات أجهزة النداء واللاسلكي التي قتلت وعطّلت الآلاف من المقاتلين؛ واغتيال كبار مسؤولي “حزب الله”، بمن فيهم الزعيم الأعلى السيد حسن نصر الله؛ والغارات الجوية المتواصلة ضد البنية التحتية العسكرية ل”حزب الله”- إلى تدمير المنظمة سياسيًا وعسكريًا تدريجيًا. وبحلول تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، وخوفًا من المزيد من الخسائر وإدراكًا لعدم قدرة إيران على الدفاع عنه، وافق “حزب الله” على وقف إطلاق النار مع إسرائيل، والذي أغفلَ وتجاهلَ شرطه المُسبَق السابق لإنهاء الحرب في غزة أولًا، وطالب المجموعة بسحب قواتها إلى شمال نهر الليطاني، وسمح لآلاف من الجيش اللبناني الانتشار في منطقة عازلة في الجنوب. كما مهّدَ الاتفاق الطريق لتحقيق اختراقٍ في السياسة اللبنانية، باختيار رئيس جديد للجمهورية، قائد الجيش السابق جوزيف عون، ورئيس وزراء، القاضي المحترم نواف سلام، وكلاهما ملتزم بتحسين الحكم وضمان استقلال الدولة اللبنانية.

لا يزال “حزب الله” يمارس نفوذًا كبيرًا على السياسة اللبنانية، ولكن نفوذه قد تقلص إلى حدٍّ كبير. لقد سئم الشعب اللبناني من نتائج قيادة “حزب الله”. كما إن قدرة إيران على إعادة إمداد “حزب الله” تضرّرت بشدة بسبب خسارتها لسوريا، وقد تفوز الحكومة اللبنانية الجديدة بالدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الدولي الذي تحتاجه للنجاح – بما في ذلك من الولايات المتحدة. إذا تمكن ترامب من التغلب على غرائزه ضد المساعدات الأجنبية، فستتاح له الفرصة لمساعدة الحكومة والجيش اللبنانيين بالوسائل والثقة اللازمة لتهميش “حزب الله” بشكلٍ أكبر والحدّ من نفوذ إيران.

سوريا جديدة

وأخيرًا، والأكثر إثارة للدهشة، تأتي الفرصة في سوريا، التي كانت ربما المنطقة الأكثر زعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. بعد أعوامٍ من محاولة عزل وحتى الإطاحة بالديكتاتور السوري بشار الأسد، بحلول العام 2020، كانت الولايات المتحدة والعديد من حلفائها العرب والأوروبيين قد غيّروا موقفهم في الغالب، وتقبلوا الواقع القاتم لحكم الأسد الدائم. لكن مع تركيز انتباه العالم على الوضع في غزة، ومع إضعاف إيران وروسيا بسبب صراعاتهما مع إسرائيل وأوكرانيا، اغتنمت المعارضة السورية بقيادة جماعة “هيئة تحرير الشام” المتمرّدة الفرصة للتحرّك. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تشنَّ “هيئة تحرير الشام” وحلفاؤها الهجوم العسكري مباشرة بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين “حزب الله” وإسرائيل، والذي ضمن عدم تدخُّل الجماعة اللبنانية لإنقاذ الأسد كما فعلت في العام 2011، عندما كان على وشك الانهيار.

ولعلَّ من المدهش بالقدر عينه أنَّ “هيئة تحرير الشام”، التي لا تزال الولايات المتحدة تُصنّفها كمنظمة إرهابية، أعلنت وبدأت التصرُّف بناءً على التزامها بضمان حقوق الإنسان واحترام الأقليات والنأي بنفسها عن ماضيها الإرهابي. فجأة، رحل النظام السوري الذي كان الحليفَ الرئيس لإيران في الشرق الأوسط، وقناةً للأسلحة إلى “حزب الله”، ومضيفًا للقوات العسكرية والقواعد البحرية الروسية، ومصدرًا رئيسًا للمخدرات، وداعمًا للإرهاب الإسلامي، وظهرت فرصةٌ لتشكيل سوريا جديدة. لا يزال يتعيّن على الرئيس الجديد أحمد الشرع أن يُثبتَ التزامه بسوريا الأفضل، حيث حتى قبل ثلاثة أشهر فقط، كانت فكرة أن يرث ترامب الفرصة لدعم مثل سوريا هذه تبدو وكأنها مجرّد حلم.

لن تكونَ السياسة الأميركية هي المُتغيِّر الرئيس الذي يُحدّدُ النجاح أو الفشل في سوريا، ولكن واشنطن قادرة على إحداث الفارق. فقد يرفع ترامب، على سبيل المثال، تصنيفات الإرهاب الأميركية في مقابل الحكم الرشيد والتعاون في تحقيق أهداف مكافحة الإرهاب، بما في ذلك الوجود العسكري الأميركي المتفاوض عليه في الشمال الشرقي للمساعدة على منع عودة ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية”. وقد يرفع ترامب أيضًا العقوبات الأوسع نطاقًا ويقدم المساعدة الاقتصادية إذا وافقت سوريا على منع روسيا من الوصول إلى القواعد الجوية والبحرية، وقد يساعد البلاد على العثور على إمدادات الحبوب والنفط لتحل محل المصادر الروسية والإيرانية المفقودة. وقد يستخدم ترامب أيضًا نفوذ الولايات المتحدة مع تركيا ومع شركاء واشنطن السوريين الأكراد للتوسط في نهاية المطاف في التوصل إلى اتفاقٍ سياسي بينهم وبين النظام الجديد في دمشق. وهذه فرص لم تتح للولايات المتحدة منذ عقود، وينبغي لترامب أن ينتهزها.

إغتنامُ اللحظة

لا ينبغي لأحد أن يُقلِّلَ من شأن التحدّيات والمخاطر التي لا تزال تلوح في الأفق في جميع أنحاء الشرق الأوسط. حكوماتٌ ضعيفة وغير فعّالة؛ وتنافسات دينية وعرقية وبين الدول العميقة؛ الواقع أنَّ العديد من الجهات الفاعلة السيئة ــفضلًا عن عواقب الحرب الرهيبة في غزة التي قد لا تنتهي بعد ــ سوف تستمر في التآمر ضد التقدُّم نحو السلام والاستقرار. وفي الوقت نفسه، سيكون من الخطَإِ المأساوي تجاهُل الفُرص التاريخية التي يُقدّمها المشهد الاستراتيجي الجديد، والتي كانت لتبدو كلها بعيدة المنال قبل عام أو حتى بضعة أشهر فقط.

لا شكَّ أن دونالد ترامب لن يحب شيئًا أكثر من النجاح حيث فشل العديد من أسلافه. وأيُّ شخصٍ يهتم بالمنطقة ينبغي له أن يأمل أن ينجح.

  • فيليب غوردون هو مستشار الأمن القومي لنائبة الرئيس كامالا هاريس من العام 2022 إلى العام 2025، ومنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط أثناء إدارة باراك أوباما. وهو مؤلف كتاب “خسارة اللعبة الطويلة: الوعد الكاذب بتغيير النظام في الشرق الأوسط”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى