نداءٌ للعمل: تعزيزُ الكرامة الإنسانية في عالمٍ مُتغيِّر

الأمير الحسن بن طلال*

في عصرِ التغييرِ التكنولوجي والاجتماعي والجيوسياسي السريع، لم يَكُن المبدأُ الأساس للكرامةِ الإنسانية أكثر أهمّية من أيِّ وقتٍ مضى. ومع مواجهة العالم لتحدّياتٍ جديدة، من اتِّساعِ فجوةِ التفاوت إلى تآكل المعايير الديموقراطية، والتنفيذ المُتهاوِن للقانون الدولي، يجب أن تظلَّ القيمةُ والحقوقُ المتأصّلتان لكلِّ فردٍ في المقدّمة.

لعقود، لعبت المنظّمات غير الحكومية التابعة للأمم المتحدة مثل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والمفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى جانب الهيئات الدولية مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) والمنظّمات غير الحكومية مثل “Mercy Corps”، دورًا حاسمًا لا لبسَ فيه في تقديم الخدمات الأساسية – بما فيها التعليم والرعاية الصحية ومساعدات الإغاثة الطارئة. تتحمّلُ الأونروا وحدها مسؤولية تقديم الخدمات الإنسانية الأساسية لـ6.7 ملايين لاجئ فلسطيني في مجالاتِ عملها الخمسة في جميع أنحاء المنطقة. كما قدم المانحون الدوليون الآخرون -كلٌّ حسب قدرته- المساعدة الضرورية والخدمات الأساسية لسكانهم المُستهدَفين، وبالتالي لعبوا دورًا استقراريًا في المجتمعات المضيفة التي يعملون فيها.

اليوم، تجدُ هذه المنظّمات نفسها عندَ مُفترق طُرق بين التدقيق السياسي المتصاعد، وحملات التضليل/المعلومات المضلّلة، وخفض التمويل، وعدم الاستقرار الإقليمي المتزايد. إنَّ القرارَ الأخير بتجميد المساعدات وتمويل بعض هذه المنظمات أمرٌ مُثيرٌ للقلق الشديد، ما يجعل مستقبل الجهود الإنسانية غير مؤكّد.

سلّطَت دراسةٌ استقصائية حديثة للأمم المتحدة الضوءَ على العواقب البعيدة المدى لهذه التخفيضات في التمويل، مُحَذِّرةً من حدوث اضطراباتٍ كبيرة في وكالات الأمم المتحدة الرئيسة مثل برنامج الغذاء العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، واليونيسيف. إنَّ نتائج هذا المسح مُثيرةٌ للقلق بالفعل، سواء من الناحية الأخلاقية أو من منظورٍ إنساني وإنمائي. لقد التزمَ العالم من خلال الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة بأجندة 2030 والتنفيذ الكامل لأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر – وقبل كل شيء، الهدف 17، الذي يؤكّد على الشراكة.

قدّمت الولايات المتحدة، وهي تقليديًا أكبر مانحٍ مُنفرد للمساعدات على مستوى العالم، أكثر من 40 في المئة من موازنة المساعدات الإنسانية للأمم المتحدة في العام الفائت. على سبيل المثال، قدّمت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أكثر من 600 مليون دولار كمساعداتٍ اقتصادية للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة منذ العام 2021. ويُهدّدُ تآكلُ الدعم المالي لهذه المؤسّسات الحيوية بتعميق مُعاناة السكان الضعفاء في جميع أنحاء العالم. مع ذلك، تعرّضت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية نفسها أيضًا لتدقيق متزايد. وكما أكدت مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية السابقة سامانتا باورز أخيرًا، فإنَّ تسييس المساعدات يُشكّلُ تهديدًا خطيرًا للجهود الديبلوماسية والإنسانية القائمة منذ فترة طويلة، مما يُقوِّضُ استقرارَ وفعالية برامج المساعدة العالمية.

وفي حالةٍ مُماثلة، تؤكّد مهمّة الأونروا المتمثّلة في توفير التعليم والرعاية الصحية والمساعدة الطارئة لأكثر من 6.7 ملايين لاجئ فلسطيني اليوم على الأهمّية الحيوية لدور الوكالة. وقد يؤدي نقص التمويل إلى حرمان أكثر من 700 ألف طفل فلسطيني من الوصول إلى التعليم وتعطيل خدمات الرعاية الصحية الأساسية لأكثر من 3 ملايين لاجئ يعتمدون على الأونروا في الرعاية الأوّلية. ويتعيّن على المجتمع الدولي أن يُدرِكَ أن مهمّة الأونروا هي شريان حياة، وليست أداةً سياسية، وأنَّ استمرارَ عملها هو شهادةٌ على تفاني العالم في دعمِ الكرامة الإنسانية للفئات الأكثر ضعفًا. إنَّ الحفاظَ على قدرة الوكالة على العمل هو استثمارٌ في الاستقرار الإقليمي والعالمي، وفي السلام، وفي المستقبل.

إنَّ ما تُواجهه هذه المؤسّسات الحيوية اليوم يُقوِّض قدرتها على الوفاء بمهامها الأساسية. إنَّ “تسليح المساعدات” وتآكل التعاون الدولي يُهدّدان بتفاقُم مُعاناة السكان الضعفاء، بدلًا من حلِّ النزاعات السياسية الكامنة. وهذا عصرٌ جديد حيث يتمُّ مراجعة أخلاقيات الحرب والسلام.

في ثمانينيات القرن العشرين، قادَ الأردن الدعوة إلى تنفيذِ نظامٍ إنساني دولي جديد. وانضمَّ إلى الدعوة 28 عضوًا، بما في ذلك الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن الدولي، حيث أعطوا الأولوية لحماية كرامة كلّ شخص وحقّه في الحياة والأجيال المقبلة.

إنَّ مسؤولية الدفاع عن الكرامة الإنسانية لا تقعُ على عاتقِ صنّاع السياسات والهيئات الدولية فحسب. بل إنَّ المعلّمين والزعماء الدينيين وقادة المجتمع والمواطنين المنخرطين جميعهم لديهم دور يلعبونه. ومن خلال تعزيز قيم التعاطُف والعدالة في الأجيال المقبلة، والاستفادة من السلطة الأخلاقية، وتعبئة العمل الجماعي، يمكننا العمل نحو عالمٍ تسود فيه المبادئ الإنسانية على الانقسامات السياسية، وحيث يتم الحفاظ على جوهر الإنسانية في جميع الأوقات.

إنَّ حماية هذه المؤسسات الحيوية والمبادئ التي تُجسّدها ليست مجرّد ضرورة أخلاقية – بل هي ضرورة للتنقل عبر تعقيدات القرن الحادي والعشرين بالتعاطُف والتعاون والالتزام الراسخ بالقانون الدولي والكرامة الإنسانية.

  • الأمير الحسن بن طلال هو ولي العهد السابق في الأردن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى