الومضةُ الشعرية روحُ القصيدة، والإِيقاعُ جسدُها

والت ويتمان: تأَثَّرَ به شعراء الحداثة العربية

هنري زغيب*

غالبًا ما يطَّلع شعراؤُنا على تجارب الغرب فيتلقَّفون منها نفَسًا، وهو أَمر طبيعي في تَلاقُح الحضارات. لكنَّ فيهم من يَبعُد أَكثر من التلقُّف فيتأَثّر ويقلِّد شكلًا وبعضَ مضمون فيسقط في الغربة عن واقعنا وعن قرائه. بلوغُ العالمية يبدأُ من المحلية التي إِليها يجتذب الآخرين، وليس الذهاب إِلى الآخرين هو بلوغ العالمية.

هذا المقال ليتوسَّع في هذه النقاط.

جبران: أَحبَّهُ الغرب لروحانيته الشرقية

لا نستعيرنَّ ثياب الغرب

التجاربُ الشعرية في العالَم، فلْنواجهْهَا بنا نَحن لا بصورةٍ عنها من عندنا. العالمية نبلُغُها بطرازِنا المحليّ العصري لا بارتدائنا طرازَها ثوبًا مستعارًا ذا تسمياتٍ مُختلفةٍ مستورَدَة (الشعر المنثور، الشعر الحرّ، الشعر الحديث، الشعر الإِلكترونِي، قصيدة النثر، الكتابة الآليّة، قصيدة البياض،…). لن ينقلَنا الغرب إِلى آدابه إِذا استعرْنا ثيابَه وعُدْنا بِها إِليه (وإِنْ هو فعَل فَمَوجَةٌ تنقُلُ موجة، حتى إِذا سقَطَت الأُولى سقطَت معها الأُخرى في درْكٍ عميق). رغبةُ الغرب أَن يَنقلَ أدبَنا بطِرازِنا نَحن، المتميّز عنه والمغاير. فها العالَم نقل طاغور (إِلى أَكثر من 25 لغة) كما هو، ببساطته التي تبدو سذاجةً لضِعاف النظر فيما هو، بِمَحَلِّيَّتِه الهندية المتميِّزة، قطَف “نوبل” الآداب (1913). الشمولية تبدأُ من الذاتية الفرديّة، والعالَمية تبدأُ من أَصالة المحليّة. جبران اللبناني أَدهش أَميركا وما زال اليوم يدهش العالَم (“النّبِيّ” بات منقولًا إلى معظم لغات العالم) لا بِأَمْرَكَة أَدبه ليَركَب الموجة بل بشرقيّته الروحانيّة وخيالات لبنانيّته النوستالجيّة المتميِّزة روحًا ونبضًا وبنتَ تراث. ثورته لم تكن بالخروج على الأُصول والجذور والتراث بل من ضمنها وباسمها ولأَجلها.

أَمين نخلة: في نثره شعر صافٍ

بين الأَصالة والموجة

الشمسُ قديَمةٌ ولا تتجدَّد. وليس من يقولُ إِنّها صارت موضةً عتيقةً تقليدية! كلَّ يوم نظنُّنا نراها مرّةً أُولى. والمناقبيةُ في الأَخلاق لا تَهرَم. فليس من يقوم بثورة على مناقبية الإِمام عليّ الشجاع الكريم بِحجّة أَن موضةَ الشجاعةِ والكَرَمِ بَطُلَت. ومريم العذراء لا يُثارُ على طُهرها بِحُجّة أَن الطهارةَ موضةٌ قديَمةٌ تَجب الثورة عليها باسم العصرنة و”الحداثة” لاستبدالِها بِموضةٍ خليعة.

وكما في الشمس والقِيَم والأَخلاق، كذلك في الفنّ: ليس من يقول إِن الإِبداع الذي أَتى به رودان وموزار بَطُلَتْ موضَتُهُ ويَجب رفضُهُ واعتمادُ الـمُبْهَم والـ”بوب ميوزيك” والـ”هارد ميوزيك” مكانه.

لا يَجوز نُكران الأُصول باسم الرفض، ولا اغتصابُ التراث باسم التجديد، ولا قتلُ الثوابت باسم الثورة والتغيير. لا يُثار على دُربةٍ وراءَها خبرة. كما في الطبّ: لا يُثار، لـ”التجديد”، على طريقةٍ ذاتِ أُصولٍ علميّة وإِلَّا قضى المريض تَحت مبضع الجرّاح.

أُنسي الحاج: “الرسولة” شعرٌ في نثر جميل

التجديد من الداخل

إِنّ اتّباعَ الأُصول والإبداعَ من داخلِها يولِّدان الجمال. كالفستان المدروس، يُظهِر جَمال الحبيبة دون تعهير جسَدِها أَو تَسلِيعه. وهكذا الشعر: إِذا افتقَد جَماليا الأُصول فيه لا يعودُ شِعرًا، بل يُمسي هذَرًا وهذيانًا. فما القول، عندئذٍ، باغتصابِ الشمسِ نظامَها، والبحرِ حركةَ المدّ والجَزر فيه، والأَربعةِ الفصول دورتَها؟ وما القول، استطرادًا، باغتصابِ قواعدِ اللغةِ والصرفِ والنحو باسم الثورة والرفض والتغيير و”الحداثة”؟

العاملون على اسم “الحداثة” الشِّعرية يَجدون من غير المنطقي أَن نكون في القرن الحادي والعشرين ونَلبَس في شعرنا عباءةَ الخليل بن أَحمد بقواعد عروضها. يعني كَمَن يتنطَّح اليوم من الموسيقيين ويرى من غير المنطقيّ أَن يعيش الموسيقيّ اليوم في عصر “الموسيقى الإِلكترونية”، ويعتمدَ سِجِلَّ النوتات السبع التي اشتغل عليها باخ وبيتهوفن وتشايكوفسكي.

لا تعصُّبَ للقديم مجانيًّا

أُسارع إِلى الفصل: لا أَتَمسَّك بالشكل العموديّ (صَدْرًا وعَجُزًا) ولا بالوزن ولا بالقافية شروطًا للشعر. لكنَّ الحداثةَ ليست الخروجَ على نغميّة الإِيقاع، مثلما ليس “قرضُ” الشِّعر قصائدَ “عصماء”، أَو “نظمُهُ” وزنًا وقافيةً هو وحدَه الشعر. الشرط الأَساسيّ هو الإيقاع. “المفكرة الريفية” نَثْرٌ فنّيّ جَمالِيٌّ يُباهي به أَمين نَخلة أَرقى الشعر ولا يدَّعيه شعرًا. و”الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” لأُنسي الحاج لا وزنَ تقليديًّا فيها ولا قافية، ومع هذا هي في قلب الشعر العالِي. وإذا الومضةُ الشِّعريةُ روحُ القصيدة فالإِيقاعُ جسدُها. وهو ضمن تكوين الدماغ البشريّ في الأَوَّليات النغمية (أَهَميّة الدماغ ليست في حجمه بل في تركيبه). فالشعر ظاهرةٌ عقليةٌ وليست صوتيةً فقط. والعمارةُ الشعريةُ لا تقوم إِلَّا بِهندسةٍ متينةٍ يُشرف عليها العقل. هكذا شِعرنا لا يقوم إِلَّا على الوفاء لفنِّنا الشعريّ وليس أَيُّ شكلٍ قادرًا على احتواء قصيدتنا وملاءَمتها والانسجام مع هويّتها وانسياقها وانسيابِها.

التجربة ضرورة

التجريبية ليست مُحرَّمة. بل على العكس: مُحرَّمٌ تَحريمها. ولكنَّ العالِم في المختبَر لا يقوم بتجاربه من مادّةٍ مبتَكَرَة مرتَجَلَة بل مِن موادَّ وفَّرَها له مَن سبقوه وبلغوا بها خُلاصات. المبدع لا يعود إِلى ذاته مكتفيًا بِها وإِنَّما إِلى المبدعين الذين سبَقوه: يفيْءُ إِليهم، يكتشف كيف كلُّ واحدٍ منهم اعتَمَدَ تقْنيةً هي حصيلةُ اطِّلاعه على مَن سبقوه في الشرق والغرب. والشاعرُ الشاعر مَن استطاع أَن يزاوجَ بين ما اهتدى هو إِليه وما قَبَسَه نابضًا من التراث الحَي فيغنَم من الخبرات الهائلة والدُّرَب المجمَّعة جيلًا بعد جيل.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو رئيس اللجنة الوطنية لنشر الإِبداع اللبناني، ومدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى