مشكَلةُ سوريا الأكبر

يتوقّف مستقبل سوريا على العودة الآمنة والكريمة للاجئين والنازحين الذين سيساعدون في إعادةِ بناءِ أُمّةٍ مزّقتها سنواتٌ من الصراع. ويتعيّن على السوريين، بالتعاون مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، اغتنامَ هذه اللحظة لوَضعِ الأساس للسلام الدائم.

أحمد الشرع: أمام حكومته مهمة صعبة.

جيسي ماركس وحازم الريحاوي*

أثارت الهزيمة الصادمة لنظام بشار الأسد على أيدي الجماعات المتمرّدة بقيادة “هيئة تحرير الشام” موجةً من التفاؤل المحلّي والدولي. مع ذلك، أصبح مستقبل سوريا بعد الأسد فعليًا على حافة السكين. العقبات التي تَحولُ دون إعادة بناء البلاد هائلة. ومن أبرزها مسألة اللاجئين الذين أُجبروا على مغادرة البلاد خلال الحرب الأهلية السورية التي استمرّت أكثر من عقد. وقد تصبح عودة هؤلاء اللاجئين أكبر عملية إعادة إلى الوطن منذ عقود، مع وجودِ أكثر من ستة ملايين لاجئ سوري في الخارج وسبعة ملايين نازح داخل سوريا. وقد عاد مئات الآلاف من السوريين بالفعل إلى وطنهم، مَدفوعين برغبتهم في التحقّق من المُمتلكات التي تركوها، والهروب من الفقر والاضطهاد في البلدان المضيفة، أو لَمّ شمل الأُسرة، أو المشاركة في الفصل التالي من تاريخ بلادهم.

مع ذلك، فإنَّ البلد الذي يعودون إليه يختلف اختلافًا عميقًا عن البلد الذي غادروه. إنَّ تدميرَ المنازل والبُنية الأساسية الحيوية، واختفاء الأحباء، وانتشار الفقر، وخطر اندلاع أعمال العنف من جديد، وعدم اليقين بشأن القادة الجدد عديمي الخبرة في البلاد -بالإضافة إلى الأزمة الإنسانية التي طال أمدها في العقد الماضي- جعلت الحياة لا تُطاق بالنسبة إلى ملايين الأشخاص الذين ما زالوا في سوريا. وقد يعود مئات الآلاف من السوريين في الأشهر المقبلة. وفي القيام بذلك، فإنهم يخاطرون بتفاقُم الوضع المزري أصلًا. إنَّ العودة الجماعية غير المُدارة بشكلٍ مُنَظَّم من شأنها أن تضغط على الموارد المحدودة أصلًا في البلاد، ما يفرض ضغوطًا هائلة على السلطات السورية الانتقالية ووكالات الأمم المتحدة والمجتمع المدني السوري للاستجابة لاحتياجات مواطني البلاد بطريقةٍ تُعزّزُ الاستقرار والتعافي.

إنَّ مستقبلَ سوريا يعتمدُ على مهمّةٍ تاريخية: تيسير عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم في بلدٍ غارقٍ في الاضطرابات مع تلبيةِ احتياجات السوريين الذين ما زالوا في البلاد. والأمر الحتمي الآن هو تنفيذ هذه المهمة على نحوٍ صحيح. ويتعيّن على البلدان المجاورة والمنظمات الدولية والحكومة الانتقالية السورية الجديدة أن تتعاون من أجل إنشاءِ برنامجٍ لإعادةِ اللاجئين قادرٍ على إدارة عودة السوريين وحماية حقوق الفئات الضعيفة وحلِّ النزاعات القانونية على الأراضي وإعادة تشكيل المجتمع السوري بعد الحرب. وفي الوقت نفسه، يتعيّن على الحكومة الانتقالية والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية أن تعمل معًا، على الرُغم من تشكّكها المُتَبادَل، لدعم الاحتياجات الإنسانية الفورية والمستمرة للسوريين الذين لم يغادروا البلاد قط. والتركيز على الأول بدون الاهتمام الكافي بالثاني من شأنه أن يخلق الظروف التي قد تدفع البلاد إلى أزمةٍ مرة أخرى قبل أن تُتاحَ لها الفرصة لإعادة البناء. والواقع أن هذه لحظة مفعمة بالأمل بالنسبة إلى سوريا، ولكن العمل الحقيقي لإعادة بناء البلاد بدأ للتو.

في حالة تغيُّرٍ مُستمرّ

شهد العام 2024 تحوُّلًا دراماتيكيًا في عدد اللاجئين العائدين إلى سوريا. فمنذ العام 2020، ظلَّ عددُ السوريين العائدين سنويًا أقل من 51 ألف لاجئ ــ أقل من واحد في المئة من 6.8 ملايين لاجئ سوري في العالم، وهو ما يشمل أكثر من ربع سكان سوريا قبل الحرب. وبحلول آب (أغسطس) 2024، كان من المُقدَّر أن يعودَ نحو 34 ألف لاجئ، ولكن بعد غزو إسرائيل للبنان في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، فرّ حوالي 350 ألف لاجئ إضافي من لبنان إلى سوريا هربًا من الصراع. ومع عودة 125 ألف لاجئ آخرين منذ سقوط الأسد في أوائل كانون الأول (ديسمبر)، بلغ العدد الإجمالي للعائدين في العام 2024 ما يقرب من نصف مليون لاجئ. وبالفعل، عاد 125 ألف لاجئ آخرين في العام 2025، وفقًا لأرقام الأمم المتحدة. وقد ينضمُّ إليهم قريبًا عشرات الآلاف من السوريين المُرَحَّلين قسرًا من قِبَل الدول المجاورة التي قد تستخدم رحيل الأسد كذريعةٍ لطردهم.

لكن هذه العودة ليست دائمة. فالكثيرون من السوريين يعودون للاطمئنان على أراضيهم، وتقييم الأوضاع الأمنية والاقتصادية في أعقاب انهيار النظام، أو لَمّ شمل الأُسرة. وبالنسبة إلى آخرين، فإنَّ العودة هي الخيار الوحيد للهروب من الظروف المتدهورة في البلدان المُضيفة، حيث أدت الصعوبات الاقتصادية، وارتفاع تكاليف المعيشة، والفُرَص المحدودة إلى جعل الحياة غير مُحتَملة على نحوٍ متزايد. وإذا استقرّت الأوضاع في سوريا وتحسّنت الظروف الاقتصادية في ظل حكومتها الجديدة، فقد ينمو عدد العائدين الدائمين بشكلٍ كبير.

وقد يواجه اللاجئون السوريون ضغوطًا للعودة قبل الأوان (أو حتى ترحيلهم مباشرة) من جانب البلدان المجاورة، التي أصبحت مُقاوِمة ومُعارِضة بشكلٍ متزايد لاستضافة أعداد كبيرة من اللاجئين في حين تواجه في الوقت نفسه تدهورًا اقتصاديًا كبيرًا، وضغوطًا سياسية داخلية، وفي حالة لبنان، حربًا خاصة به. وقد عانى اللاجئون السوريون من هذا الرد العنيف في شكلِ قمع الدولة، والحرمان من الإقامة القانونية ووضع اللاجئ، والقيود الشديدة على الحقوق والوصول إلى الخدمات الإنسانية الأساسية. وتتفاقم المشكلة بسبب الانخفاض الكبير في تمويل المانحين الدوليين للدول المضيفة وبرامج إعادة توطين اللاجئين على مدى السنوات الخمس الماضية، بسبب إرهاق المانحين والتباطؤ الاقتصادي العالمي بعد كوفيد-19، الأمر الذي قَيَّدَ موازنات المساعدات الإنسانية العالمية. وقد أدى الضغط على الحكومات التي تُكافحُ أصلًا لتوفير احتياجات مواطنيها إلى تأجيج الدعوات المتزايدة من المجتمعات المضيفة للاجئين للعودة إلى ديارهم. وقد قام كلٌّ من لبنان وتركيا بالفعل بترحيل اللاجئين السوريين بشكل جماعي منذ العام 2022، ما أجبرهم على العودة حتى مع اندلاع الحرب الأهلية. وقد تؤدي عمليات الترحيل الجماعي إلى تقويض الاستقرار الذي سعت الدول المضيفة إلى تحقيقه في سوريا.

في الوقت نفسه، لن يكون لدى أغلب العائدين داخل سوريا مكانٌ يعودون إليه وموارد محدودة لإعادة البناء. ولا تزال مساحات شاسعة من البلاد غير صالحة للسكن بسبب حطام الحرب، حيث لا تزال أحياء بأكملها في المدن الكبرى مثل حلب ودمشق والرقة مدمرة وقرى مدمرة. وانكمش الاقتصاد السوري بنسبة تزيد على 80% منذ بدأت الحرب في العام 2011. وأدى انتشار البطالة والتضخم المتفشي إلى ارتفاع معدل الفقر إلى 90%. ويؤدي الافتقار إلى البنية الأساسية والمياه النظيفة والكهرباء والرعاية الصحية والمدارس إلى تعقيد إمكانية إعادة الإدماج الجماعي. ووجد العديد من العائدين منازلهم محتلة من قبل آخرين أو مُدمَّرة بالكامل، ما أدّى إلى نزاعات حول السكن والأراضي والممتلكات. وفي غياب هيئات الوساطة الرسمية الراسخة، فإنَّ هذه المظالم غير المحلولة تُخاطر بإشعال فتيل التوترات وتقويض الاستقرار الهشّ الذي نشأ في أعقاب سقوط الأسد.

الأمر يتطلّب قرية

إنَّ العودة الطوعية للاجئين في سوريا، كما هي الحال في أيِّ بلدٍ ما بعد الصراع، تستلزم أكثر من العودة الجسدية للاجئين. فهي تتطلّب تحسينًا شاملًا للأبعاد السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية المتشابكة للعودة. إنَّ العودة إلى الوطن، على الرُغم من كونها عملية مستمرّة وثابتة، غالبًا ما يتم إحالتها إلى مرتبةٍ ثانوية من قبل الجهات الفاعلة في الدولة التي تعطي الأولوية لبناء الدولة والاستقرار والتعافي المبكر وإعادة الإعمار. ونتيجةً لذلك، يمكن أن تحدث العودة بشكلٍ فوضوي بدون أيِّ هيكلٍ أو تنظيم، مما يجعل العائدين عُرضةً للخطر ومنفصلين عن جهود التعافي الأوسع التي تستهدف السكان الحاليين.

لتجنُّبِ الوقوع في هذا الفخ، تحتاج سوريا إلى خطةٍ مُتماسكة للعودة إلى الوطن في وقتٍ مُبكر لضمان دمج العائدين في التنمية طويلة الأجل للبلاد وعدم تقويض عملية التعافي. يمكن للحكومة الانتقالية السورية إنشاء إطار تعاوني من خلال التعامل مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهي الوكالة الرائدة في إدارة عودة اللاجئين، والدول المجاورة، بما فيها الأردن ولبنان وتركيا، لإدارة عمليات العودة الجارية بشكلٍ فعّال وضمان وفاء الجهات المعنية الإقليمية بالتزاماتها لمنع العودة القسرية. ويتعيّن على البلدان المضيفة أن تتعهّد بعدم دفع اللاجئين إلى العودة؛ والسماح للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين بقيادة عملية عودة طوعية تدريجية ومنظَّمة؛ والسماح للسوريين الذين يختارون العودة مؤقتًا إلى سوريا في زيارات “اذهب وشاهد” لتقييم الظروف بالحق في العودة. ويتعيّن على المفوضية والمجتمع الدولي تحفيز الدول على الالتزام بهذه الالتزامات من خلال ربط المساعدات الإنسانية والتنموية بالامتثال. ويمكن استخدام حزمة مساعدات التنمية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي للبنان بحلول العام 2024 والمساعدات الإنسانية والتنموية البالغة 1.2 مليار دولار التي تتلقاها الأردن من الولايات المتحدة سنويًا كرافعة ذات قيمة خاصة.

إنَّ الدول المانحة غير التقليدية، وخصوصًا دول الخليج العربي، يمكن أن تستفيدَ أيضًا من توفير موارد إضافية لتحفيز الدول المضيفة على الامتثال. ويمكن توسيع إطار الإعادة في وقتٍ لاحق ليشمل الاتحاد الأوروبي ودول أخرى تستضيف اللاجئين خارج الشرق الأوسط بحيث يمكن إدارة العودة الطوعية من أوروبا بشكلٍ مستدام مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بمجرّد تحسُّن الظروف الاقتصادية والأمنية في سوريا. وإذا انزلقت سوريا مرة أخرى إلى الصراع، فإنَّ العودة المبكرة أو القسرية لن تؤدي إلّا إلى نزوح جديد للعائدين، الذين قد يفرّون مرة أخرى إلى البلدان المجاورة بحثًا عن الأمان. إنَّ إنشاءَ نهجٍ واضحٍ ومُنسَّق من شأنه أن يساعد على تجنُّب الدفع الخطير للعودة الجماعية قبل أن تكون البلاد مستعدة.

ستكون حكومة تصريف الأعمال في سوريا مسؤولة عن إدارة العودة على نطاق واسع، لكنها بحاجة إلى تعزيز قدرتها المؤسّسية للقيام بذلك بشكلٍ فعّال. إنَّ إعادةَ بناء مؤسّسات الدولة أمرٌ بالغ الأهمية لاستئناف تقديم الخدمات العامة وإعادة بناء البنية التحتية واستعادة الخدمات المدنية الأساسية، على الرُغم من أنَّ إعادة بناء القطاع العام القادر على التعامل مع هذه المهام سوف يستغرق وقتًا. وستكون الحكومة المؤقتة مسؤولة أيضًا عن معالجة التحدّيات التي سيواجهها العائدون، بما في ذلك ضمان حمايتهم؛ وسوف تحتاج الحكومة إلى تعزيز عملية إعادة إدماج السوريين في المجتمعات المحلية؛ واستعادة حقوقهم في السكن والأراضي والممتلكات؛ وبناء مساكن ومجتمعات جديدة للسوريين الذين يعودون إلى ديارهم ليجدوا أنَّ الحياة التي تركوها وراءهم قد مُحِيَت بسبب الحرب. وسوف تحتاج الحكومة إلى تنظيم التوثيق المدني؛ وإنشاء آليات قانونية شفافة لحل النزاعات على الأراضي والممتلكات؛ وتوفير الحماية والدعم للفئات الضعيفة، بما في ذلك الأقليات والنساء والأطفال والمعوَّقين. وسوف تحتاج أيضًا إلى توفير السكن والمساعدة المالية للسوريين النازحين مع استعادة العائدين لممتلكاتهم، وحل التوترات التي قد تنتج عن هذه الاستصلاحات.

لا تستطيع الحكومة ولا ينبغي لها أن تقوم بهذا الجهد الضخم بمفردها. ستكون المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في وضعٍ أفضل لتسهيل العودة الطوعية للاجئين بمجرّد تحسُّن الظروف في سوريا، ولكن يجب على الوكالة أن تبدأ توسيع نطاق رصدها لنوايا اللاجئين، وتوثيق تدفّقات العودة، وضمان حصول العائدين على الخدمات في مناطق عودتهم. يمكن للوكالة دعم وتقديم المشورة لجهود الحكومة المؤقتة لصياغة وتعديل القوانين الوطنية بما يتماشى مع الحماية القانونية الدولية للنازحين. كما يمكنها دعم جهود الحكومة لتحسين إصدار الوثائق المدنية للسوريين النازحين داخل وخارج سوريا، كما فعلت خلال أزمة اللاجئين في العراق وأفغانستان.

خدمات رعاية المنزل

ستعتمد إدارة العودة على تحقيق الحكومة الانتقالية السورية لمستوى أساسي من الاستقرار والقدرة المحلية على معالجة عدد لا يحصى من التحديات الإنسانية الموجودة أصلًا. إن احتمالات تجدُّد الصراع عالية، كما استمر النزوح الداخلي منذ سقوط الأسد، نتيجةً للاشتباكات المستمرّة بين الجماعات الموالية لتركيا وقوات سوريا الديموقراطية التي تدعمها الولايات المتحدة ويهيمن عليها الأكراد في شمال شرق سوريا. إنَّ الانسحاب الأميركي المُحتَمل من سوريا قد يؤدي إلى تفاقُم هذه التحدّيات. كما إنَّ تجميدَ إدارة دونالد ترامب للمساعدات الخارجية الأميركية وتقليص الوكالة الأميركية للتنمية الدولية يُعرِّضان البرامج الإنسانية والتنموية في مختلف أنحاء البلاد للخطر، بما في ذلك تمويل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، على وجه التحديد في الوقت الذي يستمر ملايين السوريين في الاعتماد على المساعدات الإنسانية. إنَّ الحفاظ على الاستجابة الإنسانية في سوريا وتعزيزها، جُزئيًا من خلال توسيع دور مجموعات المجتمع المدني التي تقودها حاليًا، أمر بالغ الأهمية لتحسين الظروف على الأرض وجعل العودة الواسعة النطاق للسوريين ممكنة في نهاية المطاف.

لقد تعلَّمَت الجهات الفاعلة الإنسانية من الصراع السوري أنَّ الحفاظَ على الوصول إلى كل أنحاء سوريا خلال أوقات الأزمات يتطلّب إبقاء الطرق مفتوحة من البلدان المجاورة. وإذا استؤنف الصراع، يمكن لوكالات الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الإنسانية الاستمرار في الوصول إلى المحتاجين عبر الحدود. وقد أثبت إطار “سوريا بأكملها”، الذي أنشأه مجلس الأمن الدولي، أنه النموذج الأكثر فعالية لتقديم المساعدات إلى سوريا. وينبغي الإبقاء على هذا النموذج، الذي يستخدم مجموعة من مكاتب الأمم المتحدة في الأردن وتركيا المجاورتين لتنسيق عمليات تسليم المساعدات عبر الحدود ومراقبة الظروف من داخل وخارج سوريا. ويجب أن تظل مراكز وكالات الأمم المتحدة الرئيسة في عمّان، الأردن وغازي عنتاب، تركيا، والتي تمتلك البنية الأساسية والقدرة على تسهيل العمليات عبر الحدود على نطاق واسع، مفتوحة وتستمر في تسليم المساعدات إلى سوريا وتنفيذ مهام المراقبة، وخصوصًا في المناطق حيث تكون الاحتياجات الإنسانية أكثر حدة وحيث من المرجح أن يستقر عدد كبير من العائدين حتى يتمكنوا من دعم جهود إعادة الإدماج.

وينبغي للمنظمات غير الحكومية التي يقودها السوريون أن تتولى أيضًا دورًا موسعًا في كلٍّ من الاحتياجات الإنسانية الفورية وجهود التعافي الطويلة الأجل. كانت هذه المجموعات العمود الفقري للاستجابة الإنسانية للبلاد طوال الحرب. إنَّ المنظمات غير الحكومية قادرة على تقديم خدماتها للمجتمعات المحلية، ولديها معرفة محلية عميقة؛ وشبكات راسخة قادرة على تيسير جهود الإغاثة الفورية وإعادة الإدماج وإعادة البناء؛ والمرونة التشغيلية، ما يسمح لها بالعمل بشكلٍ فعّال في المناطق التي تفتقر إلى قدرات الدولة. كما تعمل منظمات المجتمع المدني كجهات فاعلة محايدة قادرة على توفير جسر بين السوريين والسلطات المؤقتة، وخصوصًا في المجتمعات التي تخشى الحكومة أو المُعرَّضة لخطر التوترات الطائفية. ومن المرجح أن تثق المجتمعات المحلية بهذه المنظمات وتقبلها، مما يخفف من احتمال اندلاع صراع على المستوى المحلي نتيجة لعدم الثقة أو سوء التصوُّر. ولتعظيم نطاقها وفعاليتها، يتعيّن على الحكومة المؤقتة وضع مبادئ توجيهية قانونية وسياسية واضحة تُوَجِّهُ نشاط المنظمات غير الحكومية نحو سدِّ فجوات الخدمة الحرجة، ويجب أن تضمن إمكانية محاسبة هذه المجموعات. خلال الحرب، عملت المنظمات غير الحكومية كقادة فعليين للقطاع العام في غياب الدولة. ومع نضوج الحكومة الجديدة، يتعيّن على المنظمات غير الحكومية نقل إدارة القطاع العام المُنعش إلى الدولة، مع الاستمرار في تقديم الدعم والخدمات لمجتمعاتها. ويمكن للجان المشتركة المكوَّنة من السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص أن تضمنَ أن تكون جهود التعافي شاملة ومستجيبة للاحتياجات المجتمعية المحددة.

إنَّ المجتمع الدولي ينظر إلى منظمات المجتمع المدني السورية بشكلٍ أكثر إيجابية من الحكومة المؤقتة، التي تمَّ تصنيف قادتها على أنهم إرهابيون في العديد من البلدان حتى وقت قريب. وعلى الرُغم من أنَّ الترخيص العام 24 لوزارة الخزانة الأميركية، والذي يجيز مجموعة من المعاملات في سوريا لتسهيل تدفّق المساعدات والخدمات الإنسانية، يُوفّر بعض الاستثناءات من العقوبات للدولة السورية، فإنَّ المنظمات غير الحكومية هي قناة معتمدة للمانحين الدوليين لمواصلة تمويل استجابة المساعدات في سوريا بينما تظل العقوبات الأوسع نطاقًا سارية. ولكن لا ينبغي للعالم أن يتطلّع إلى المنظمات غير الحكومية لتحل محل دور الحكومة بشكلٍ دائم، أيًّا كانت الخلافات الإيديولوجية التي قد تكون لدى قادة “هيئة تحرير الشام” والفصائل المسلحة الأخرى. ولكي يستمر التعافي بشكل مستدام، يجب أن يُنظَرَ إلى الحكومة على أنها شرعية وقادرة على إدارة إعادة الإعمار.

نقطة العودة

إنَّ الفشلَ في تنسيق عودة اللاجئين السوريين ستكون له عواقب وخيمة على سوريا والدول المضيفة المجاورة واللاجئين السوريين أنفسهم. يعتمد استقرار سوريا على التعافي الوطني المُستدام، وقد يؤدي تدفّق العائدين إلى إغراق الحكومة الناشئة، ما يُقوِّضُ استقرار الدولة الهشّ. وقد تُعاني الدول المُضيفة أيضًا إذا أدت العودة الفوضوية إلى إثارة أزمة أخرى في سوريا، وهو ما من شأنه أن يدفع آلاف اللاجئين الجدد إلى العودة إلى حدودها سعيًا إلى الدخول. وبالنسبة إلى اللاجئين السوريين، فإنَّ العودة غير المُنسَّقة أو المُبكِرة قد تعني تحمُّل الفقر المدقع مرة أخرى، أو خطر المزيد من النزوح، أو حتى الموت، في حين يبدو أن الوضع يتحسّن.

وعلى العكس من ذلك، فإن عملية العودة وإعادة الإدماج المُنَظَّمة من شأنها أن تسمح لسوريا تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي الدائم بدون إثقال كاهل مؤسسات الدولة، أو المجتمع المدني السوري، أو وكالات الإغاثة. إنَّ عمليات العودة غالبًا ما تكون فوضوية، ولكن كما تُظهر النجاحات في العراق وأفغانستان، فإنَّ تنسيقَ العودة إلى الوطن من شأنه أن يُعزّزَ حماية المجتمعات النازحة ويُقلّلَ من احتمالات المزيد من النزوح عند العودة. وقد أنشأ الاتفاق الثلاثي لعام 2003 بين حكومتي أفغانستان وباكستان والمفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إطارًا طويل الأجل لحماية حقوق اللاجئين العائدين ومراقبة وتسهيل العودة الطوعية إلى الوطن. وفي العراق، ساعد التعاون الحكومي المستمر مع المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في توفير الحماية والدعم لملايين العراقيين النازحين داخليًا وخارجيًا الذين عادوا إلى ديارهم في وقت لاحق وسط صراع داخلي. والدرس المستفاد بالنسبة إلى سوريا هو أنَّ دمجَ بلدان المَنشَإِ والدول المضيفة والمفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في جهود التعافي لن يزيلَ بشكلٍ كامل المخاطر والأعباء المترتبة على إعادة اللاجئين إلى وطنهم، ولكنه الطريقة الأكثر فعالية لإدارة العديد من التعقيدات التي قد تنشأ.

إنَّ مستقبل سوريا يتوقّف على العودة الآمنة والكريمة للاجئين الذين سيساعدون في إعادة بناء أمة مزّقتها سنوات من الصراع. ويتعيّن على السوريين، بالتعاون مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، اغتنام هذه اللحظة لوضع الأساس للسلام الدائم. وإذا لم يفعلوا ذلك، فإنَّ سوريا تُخاطرُ بالانزلاق إلى حالةٍ أعمق من عدم الاستقرار، ما يترك الملايين من العائدين عالقين في بلدٍ غير قادرٍ على دعمهم. إن نافذة الفرصة تغلق، وسوف تُطاردُ تكاليف وعواقب التقاعُس السوريين لأجيال.

  • جيسي ماركس هو كبير الناشطين المدافعين عن الشرق الأوسط في منظمة اللاجئين الدولية.
  • حازم الريحاوي هو كبير مسؤولي المناصرة والاتصالات في الخوذ البيضاء (الدفاع المدني السوري).
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أفِّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى