عندما تتسلّطُ شريعةُ الغابِ على مصيرِ العالم

السفير فيكتور زمتر*

أيُّها الناس: لقد أصبحتُ سُلطاناً عليكم
فاكسروا أصنامكم بعد ضلالٍ واعبدوني
فلقد أرسلَني (الله) كي أكتُبَ التاريخَ

لطالما طالَ الحديثُ على الإبادة، خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزَّة، إلى أن كشفَ اتفاقُ وقف إطلاق النار عمّا هو أعظمُ وأدهى، حيثُ توضَّحت الغايةُ من التدمير المُمَنهج للبنى التحتية والسكانية والإستشفائية والتربوية … ما جعلَ القطاعَ غيرَ قابل للحياة!
وبما يُشبه الإخراجَ المُتقن، وفي خروجٍ على التقليد القاضي، مثلًا، باستضافة مسؤولٍ بريطانيٍّ رفيعٍ كأوَّل زائرٍ في بداية الولاية، ارتأت الإدارةُ الأميركيةُ الجديدةُ أن يكونَ بنيامين نتنياهو زائرَ البيت الأبيض الأوَّلَ، لزوم إصدار الفرمان الهمايوني القاضي بالإستيلاء على قطاع غزَّة وتهجير سكانه، بحجَّة البحث لهم عن حياةٍ كريمة، دلالةً على الهيام بالقضية الفلسطينية.
ومن أولويّات مُتطلَّبات التسويق انتقاء عُملاءَ يُحسِنون فنَّ الترويج وإبراز فوائد المُنتَج المطلوب تسويقه، بما يُخفي الخُبْثَ المطلوب تمريره. هذا بالضبط ما أنزلته عبقريةُ المُقاولة، هذا الأسبوع، على العالم العربي، المُتوجِّس ممّا سيحملُه مُقبِلُ الأيّام من عاتيات عصر المزاجية النَهِمَة.
فبحسرة العطوف، يبكي المُقاولُ على أطلال غزَّة، “التي أصبحت الآن موقعًا مدمَّرًا .. بالكامل … وحتى المباني التي لا تزال قائمة ستنهار، ولا يمكن العيش فيها الآن”.
وكمن تُؤَرِّقُه تعاسةُ الفلسطينيين، يخلُصُ وكيلُ “تصفية تفليسة غزَّة” إلى “الحاجة إلى موقعٍ آخرٍ … يكونُ مكانًا يجعلُ الناسَ سُعداء …”. ولوهلةٍ، يخالُ المرءُ أنَّ الأمرَ مُجرَّدُ يقظة ضميرٍ، تكفيرًا عمّا ارتُكب بحقّ قضيَّة فلسطين من مآسٍ وقهرٍ وموتٍ، على مدى عُقودٍ!
ولكن استرسالَ الرئيس دونالد ترامب في سعيه إلى”إسعاد الفلسطينيين المنكوبين”، لم يمنعه من الإستدراكَ بعدم اعتقاده “… أنَّ الناس يجب أن يعودوا إلى غزَّة … لأنَّه لا يوجد لديهم بديلٌ …” آملًا أن يتمكَّنَ “من فعل شيءٍ رائعٍ … بحيثُ لا يرغبون بالعودة … فالمكانُ كان جحيمًا”.
وبصراحة “الماسك بأُصول المُلكية العقارية”، يقولُ الرئيس الاميركي أنَّ واشنطن ستتولّى أمرَ غزَّة لمُدَّةٍ طويلةٍ لإعادة إعمارها، نافضًا يدي بلاده، في الوقت ذاته، من تكاليف إعادة الإعمار، لأنَّ التمويلَ سيكون “من خلال تمويلٍ ضخمٍ من دول أخرى غنيةٍ، (جازمًا أنَّهم) مستعدون لذلك …”. فهو يُريدُ القطاعَ هديةً خالصةً على طبقٍ من ذهبٍ، بدون الإرتياب من عمولات المُرابين!
أمام هذا المُستجد الفظيع، يحارُ المرءُ المذهولُ في توصيف ما يسمع بالصوت والصورة: واهبٌ يتبرَّعُ بما لا يملك إلى طامعٍ جشعٍ لا ينفكُّ عن المُطالبة بالمزيد، وكأنَّنا أمام اجترار “وعد بلفور” جديد، يُصارُ فيه إلى مُقاربة مصائر الأُمم على طريقة البيوعات العقارية!
إنَّه استشرافٌ لحلول منطق القوَّة مكان قوَّة الشرائع والقِيَم، ما يُسلّطُ شريعةَ الغاب على مصير العالم. وعلى كلّ حالٍ، فقد ذبُلت القيمُ التي انبثقت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي عاش العالمُ على هَديها عُقودًا عدة. وللإنصاف، ساهمَ تغليبُ مصالح الدول الكُبرى على مصلحة السلام العالمي في إضعاف فعالية شُرعة الأُمم المتحدة.
وعليه، باتَت المُطالبةُ بضمّ دولٍ وكياناتٍ قائمةٍ وجهةَ نظرٍ وموضع أخذٍ وردٍّ، بعدما كان عدمُ التدخُّل بشؤون الدول الداخلية ثابتةً مُحترمَةً!
وكي لا نغرقَ في حالة الذهول، أمام الهذيان الحاصل، يجب ترقُّبُ ردود الفعل العربية على ما يُخطَّطُ لقطاع غزَّة. فهل ستُثَمَّنُ مبادرةُ الرئيس ترامب على إنَّها إسعادٌ للفلسطينيين أم إنَّها لتصفية قضيَّتهم؟
قياسًا على مقاربات العرب لجُلجلة فلسطين، في العقود الخوالي، لا يُتوقَّع أن تكونَ ردَّةُ فعلهم المُنتظرة “على قدِّ الحال”، بدليل قول ترامب أنَّ “القاهرة وعمّان قالا إنهما لن يقبلا، لكنّي أقولُ إنهما سيقبلان… وأعتقد أنَّ دولًا أخرى ستقبل أيضًا”.
تبقى الكلمةُ الفصل، كما أظهرت الوقائع، وقفًا على الفلسطينيين المُرابطين على أرضهم المُرتوية بالأحمر القاني. لقد زحفت قوافلُ الأُلوف المؤلَّفة، بُعيد وقف إطلاق النار، إلى شمال القطاع، ليس لنفض الغُبار عن أثاث بيوتهم، بل للوقوف على أساس ديارهم المُقتلَعة وعلى أطلال منازلهم المُدمَّرة! أمام هذه اللّوحة الإنسانية المُعبِّرة، لا يسعُ المرء إلّا أن تغرقَ مآقيه بدمعتين: دمعةُ الحزن على فَقْدِ الأحبة والمتاع، ودمعةُ الإعتزاز بأنَّ هذا الشعب العنيد لن يبدُلَ رمالَه بذهب الارض، مُخَيّبًا آمال الطامعين، ومُردِّدًا مع ميسون، زوجة معاوية، التي حَنَّت لحياة البادية:
لَبَيتٌ تَخفُقُ الأرواحُ فيه أَحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
ولبسُ عباءةٍ وتقرُّ عيني أَحَبُّ إليَّ من لبس الشفوفِ(١)
وأكلُ كسيرةٍ من كسر بيتي أحبُّ إليَّ من أكل الرغيفِ
خشونةُ عيشتي في البدو أشهى إليٍّ من العيش الطريفِ
فما أبغي سوى وطني بديلًا وما أبهاه من وطنٍ شريفِ

السفير فيكتور زمتر هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

 

هامش

  1. الحرير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى