لبنان: خِطابُ القَسَم، الى الاقتِصاد الُمؤسَّسي الجَديد دُرّ!
البروفسورة نيكول بَلُّوز بايكر، والبروفسور مارون خاطر*
شَكَّلَ خِطابُ القَسَم التاريخي مُرتَكزًا لإنطلاقة عَهد الرَّئيس العِماد جوزاف عَون القويَّة. الخِطُابُ المَصقول والمُتماسِك في شَكلِهِ وأُسلوبه وطريقة إلقائِهِ، أتَى منهجيُا وعِلميًا في مَضمونِهِ وشاملًا في تَصَوُّرِهِ وَفي مُقارَبَتِهِ. تُظهِرُ القراءة التَحليليَّة للخِطاب السياسي في مَنحاه الاقتصادي وفي جوهَرِهِ، أنَّه يَستندُ في إطارِه وصياغتِهِ وأبعادِهِ إلى “الاقتصاد المؤسَّسي الجَديد” (New Institutional Economics). يَرتكز “الاقتصاد المؤسَّسي الجَديد” إلى مُساهمات “دوغلاس سي نورث” (Douglas C. North) الحَاصِل على جائزة نوبل في الاقتصاد، وهو نِتاجٌ فكريٌ يَجمعُ بين السياسة والقانون والاقتصاد والتَّنظيم والعُلوم السياسية وعِلم الاجتماع. يَتميَّز “الاقتصاد المؤسَّسي الجَديد” بِتَركيزه على دور المؤسّسات في تَوجيه السُّلوك الاقتصادي وَيَنظُر في أهميَّة الأطُر السياسيَّة والقانونيَّة والاجتماعيَّة التي تَدعم النشاط الاقتصادي.
اعتمَدَ البَنك الدولي على مبادئ “الاقتصاد المؤسَّسي الجَديد” لِيُطوّر مؤشّرات عالميَّة للحَوكَمَة بِهَدَف قِياس جودة الحُكم في مُختلف البُلدان. هذه المؤشرات هي: الاستقرار السياسي، سِيادَة القانون، الفعاليَّة الحكوميَّة، الجودة التنظيميَّة، الديموقراطيَّة والمُساءلة، ومُكافحة الفَسَاد. بِشَكلٍ عَام، يَهدُفُ البَنك الدولي في مُقاربته لِمَوضوع الحَوكمة الى بِناءِ مُجتمعات أكثر استقرارًا، يُمكن التنبؤ بها معتمدًا على الشفافية والمساءلة ومشاركة المُواطنين في عَمليات صُنع القَرار. نُشير في هذا الإطار إلى نَتائج أبحاثِنا في مَوضوع الحَوكمة والتي نَشَرَتها مراجع عِلميَّة عالميَّة مُتخصصة حَيث أثبتنا أنَّ إرساء “استقرار سياسي” في بَلَد مُعيَّن هو مُؤشّرٌ إلى فعاليَّة باقي مؤشرات الحَوكمة. بناءً على ما تَقَدَّم، نَرى أنَّ خِطابَ القَسَم يَتَماهى في إطارِهِ الزَّمَني والمَنهجيّ مَع أُسُس “الإقتصاد المؤسَّسي الجَديد” ومَع اعتبار الاستِقرار السياسي مُنطلقًا لإعادة بِناء الدَّولة.
لأوَّل مَرَّة مُنذُ عُقود، قارَبَ خِطابُ القَسَم أزمَاتَ لُبنان المُزمِنَة إنطلاقًا مِن أسبابِها وَوَضع تَصوُّرًا لِلحلول يَنطَلِق من إعادةِ ترتيبِ بنيويَّة للأولويات. ولِأنَّ أزمَة لُبنان في أساسِها وفي عُمقِها سياسيَّة، بَدَأ الخِطاب بِوَضع الأُسُس السياسيَّة لِلعَهد إنطلاقًا مِن إرساء “استقرار سياسي مُستَدام”. كَرَّسَ الخِطاب هذا الاستقرار مِن خِلال التَّأكيد على حَقّ الدَّولة في احتِكارِ السّلاح والاستِثمار في الجَيش ذاتِ العَقيدَةِ الوَطنيَّة وَضَبط الحُدود وتَرسيمِها بَرًا وبَحرًا واحتِرامِ الاتفاقات الدُّوَلية والحِياد الإيجابي، وتَعزيز العلاقات مع الدُّول العَرَبيَّة ومَع دُوَل العالم والعَمَل على إستراتيجيَّة إقتصاديَّة وخارجية تُعيد لُبنان إلى خريطة دُوَل العالم. أمَّا “سِيادَة القانون” فَتَرَجَمها الرَّئيس اللبناني تَعَهُّدًا بِإقرار قَانون استقلاليَّة القَضاء العَدلي والمَالي والإداري بِما يُؤَمّن البُنية التَّحتيَّة الضروريَّة لإعادة تَفعيل العَدالة. وفي خُطوَة لافِتة بِتَوقيتِها ومَضمونِها كرَّس الخُطاب نِهائيَّة الدُستور مع التَّعَهُد بِحمايته لِقَطع الطريق على دُعاة المُؤتمرات التَأسيسيَّة. قارَبَ الخُطاب مؤشّر “الفعاليَّة الحكوميَّة” عَبرَ كلامِهِ عن اللامَركَزيَّة الإداريَّة وعن “الحُكومَة الالكترونيَّة”، كما قارَبَ مؤشّر “الجُودة التنظيميَّة” مِن خِلال تَشجيع الاستثمار وتَنظيم الشَّراكة بَين القِطاعَين العَام والخَاص. لاحِقًا تَوَقَّفَ الخِطابُ عِندَ مؤشّر “الديموقراطيَّة والمُساءلة” فَتَكَلَّمَ عَن مَفهوم الديموقراطية وعَن حُكم الاكثريَّة وحُقوق الأقليات. أخيرًا، شَدَّدَ الخِطابُ على ضَرورة مُكافحة الجَريمَة والفَساد وتَبييض الأموال بِعِباراتٍ صَريحَة وَوَاِضحَة.
بِناءً على ما تَقَدَّم، نَرى أنَّ الخِطاب أتَى على ذِكرِ جميع مُؤشرات الحَوكَمَة، واحتَرَمَ تَرتيبَها كَمَا وَرَدَ في المَراجِع الأكاديميَّة، إنطلاقًا من الاستقرارِ السياسي وصولًا إلى المُساءلة ومُكافحة الفَسَاد مُرورًا بالفَعاليَّة الحُكوميَّة وبِسيادة ومَركَزيَّة دَولة القانون وبِمَفهوم الديموقراطية والحُريات. أعطَت المَنهجيَّة المُتَّبَعَة الخِطاب بُعدًا عِلميًا بالإضافة إلى قيمَتِهِ السياسيَّة الكَبيرة. فبَعدَ تَحديد الإطار السياسي، لا بَل الأولويات السياسيَّة الضَّامنة للاستقرار السياسي، سَلَّطَ الخِطابُ الضَّوء على التَّحديات التي لا يُمكن معالَجتُها في غِياب هذا الاستقرار. قارَبَ الخِطاب المُشكلات بِشَجاعة فتكلَّم عَن أزمَة حُكم ورَبَط تغيير الأداء السياسي بِرؤية البَلَد لِناحية حِفظ الأمن والحُدود. إلَّا أنَّ المُلفت هو رَبَط تغيير الأداء السياسي بِتَغيير السياسات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وبِفلسفة المُحاسبة والرَّقابَة وبالإنماء وِبمُحاربة البِطالة وبالمَوَاضيع البيئيَّة.
في المُحَصّلة، يَبدو واضِحًا أنَّ خِطابَ القَسَم يَرتَكِزُ في سِياقه وَروحِهِ وَمَنهَجيَّتِهِ وإِطارِهِ إلى “الحَوكَمَة” التي تُشَكّل قاعِدَة الارتِكاز للاستِقرار السياسي والعنوان الأبرز لِلعَهد الجَديد. لا بُدَّ مِن الإشارة الى أنَّ “الحَوكَمَة”، في مَفهومِها العِلميّ النَّظري، تُوَفّر في ظِلّ هذا الاستقرار الإطار اللَّازم لِلنمو الاقتصادي وللَّتنمية الإجتماعيَّة. بِذَلك، يَرسُمُ الخِطابُ نَهجًا “شامِلًا” للحُكم يَعتَمِدُ أُسُس الشَّفافية والمُساءَلة ومُشارَكَة المُواطنين في عَمليَّات صُنع القَرار. في سياقٍ مُتَّصِل، يُحَدّد الخُطاب المَبادئ والاستراتيجيات التي تُشَكّل الإطار العَمَلي لِوَضع هذه الأهداف حَيّز التَّنفيذ كَتَعزيز المؤسَّسات وتَحسين الإدارة الماليَّة العامَّة، وَتَفعيل تَدَابير مُكافَحَة الفَسَاد وَدَعم المُواطن.
خُطاب القَسَم،
كُتِبَ ليَرسُمَ خَريطة طَريق واضحِةَ تَرمي الإنتقال بلبنان إلى “الحُكم الرَّشيد”،
كُتِبَ ليُعيد لُبنان إلى الخَريطة العَرَبيَّة والعَالمية،
كُتِبَ لِتَحتَكِرَ الدَّولة القَرار والسِلاح والسّيادة والإنماء المُستدام،
خُطاب القَسَم، كُتِبَ ليُنَفَّذ… كُلنا ثِقَة!
- البروفسورة نيكول بَلُّوز بايكر هي كاتِبَة وباحِثَة في الشؤون الاقتصاديَّة؛ والبروفسور مارون خاطر هو كاتِب وباحِث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة.