جبران الجَهير بين “البشير” و”السمير” (1 من 2)

هنري زغيب*

أُعجوبيٌّ هذا الذي ماتَ ذاتَ يومٍ وما زال يولدُ كلَّ يومٍ أَمامَنا في ترجمةٍ جديدة، في رسالةٍ جديدة، في طبعةٍ جديدة، في دراسةٍ جديدة، في اكتشافٍ عنه جديدٍ، فيعود بيننا نابضًا كأَنْ لم يمُت، كأَنْ لم يبتَعِد، كأَنْ ما زال يرفدنا بجديدٍ عنه يُفاجئ.

أَحدثُ ما بلَغَني قبل أَيام: العدد 13 من مجلة “السمير” (السنة الثالثة، الخميس 15 تشرين الأَول 1931، صفحة 578) وفيه مقال بعنوان “توبة جبران؟!” كتبَه صاحبُها ورئيسُ تحريرها الشاعر إِيليا أَبو ماضي دفاعًا عن صديقه جبران، ردًّا على مقالٍ جارحٍ صدَرَ في مجلة “البشير” يزعم كاتبُهُ أَنَّ جبران “تاب” عمَّا كان كتَبَه حول رجال الدين، و”ارتدَّ إِلى الإِيمان” بعدما كان “كافرًا”.

ولأَن الأَمانة الأَكاديمية تفرض الإِثبات، سأُورِدُ مقدِّمة “السمير” ثم مقطعًا من مقال “البشير”، وأُعلِّق بعدهما على الموضوع.

مهَّدت “السمير” بعرضٍ وَجيز جاء فيه: “قرأْنا في كثيرٍ من الاستغراب والدهْش مقالًا في جريدة “البشير” يُدخِلُ الوهمَ على القارئ الساذج بأَنَّ جبران خليل جبران كان ضالًّا فاهتدى، وكافرًا فارتدَّ إِلى الإِيمان، ومُسيئًا فتاب، وهو ليس مِن هذا الذي ذَكَرَتْهُ “البشير” في شيْء. فجبران الكافر في نظَر رجال الدين لم يكن كافرًا عند نفسه لكي يَتوبَ ويرتَدّ. وهو في كتاباته الأَخيرة مثْلُهُ في كتاباته الأُولى: ذلك الشاعرُ الرسامُ المتصوِّفُ ذو الإِيمان الواسع الذي تضمحلُّ لديه الحدودُ المكانية، وتَغيب فيه الفوارقُ المذهبيةُ الموروثة. وقد بقيَ على إِيمانه هذا إِلى آخر لحظةٍ من حياته. وقد رأَينا، تنويرًا للقارئ، أَن نَنقُل من مقال “البشير” أَهمَّ النقاط التي أَثارَت استغرابَنا”.

بعد هذه المقدمة، نقرأُ من مقال “البشير” هذا المقطع: “… فنحنُ إِن كنَّا مع رؤَساء الطائفة الأَجلَّاء شَكَرْنا الله على ارتدادِ (!) فقيد لبنان إِلى حظيرة الإِيمان، وإِعلانِهِ – صراحةً أَو ضمْنًا، بكتاباته الأَخيرة وما أَظهرَه قبل موته – أَنه جَحَدَ تلك المبادئَ والنظرياتِ التي أَشرنا إِليها، نرى من واجبنا تَنبيهَ القرَّاء إِلى أَنَّ توبة جبران لا تُسَوِّغُ مطالعةَ الكتُب التي حارب بها العقائدَ والشرائعَ، وتَحامَلَ فيها على رجال الدين، وأَنَّ ما حُرِّمَتْ قراءَتُهُ لا يَزال مُحرَّمًا بالشدَّة التي استُقبِلَ بها. فَلْيَحْذَرِ الفتيانُ وطَلَبَةُ المدارس وكلُّ المطالعين التعرُّضَ لمخالفة أَوامر الدين ونواهيه، ظَنًّا منهم أَنَّ التوبةَ أَصلحَت المحفوظَ من كتاباته المضلِّلة. وضَنًّا بما جادت به قريحة جبران من الأَقوال الصائبة، نرى أَن يُعمَدَ إِلى تنْقِيَة كتاباته من بُذُور الضلال، وجمْعِ الصالح منها في كتاب، ليَسْهُلَ اقتناؤُهُ على كل مُعجَبٍ بمؤَلَّفاته، فلا يَنْدَفِن مع الجوهر الحصى، ولا تضيع الفوائد من ثمرات ذلك الفكر الخصيب. وهذا في ظنِّنا ينطبقُ على رغائب الفقيد الأَخيرة، ورغائب شقيقته الفاضلة التقيَّة”.

واضحٌ في هذا المقطع أَنَّ كاتبَه لم يَسبُر عمْقَ جبران، لم يعرف أُمِّيَّةَ شقيقتِه مريانا، لم يقرأْ إِيمانَه القويَّ بيَسوع وكتاباتِه عنه بشغفٍ نورانيّ، وتمييزَه عمَّا أَحاطه من طقوس. فهوَذا صديقُه الأَرشمندريت أَنطونيوس بشير كتَبَ في مقدمة ترجمتِهِ “النبي” (القاهرة – 1926): “جميعُ كتابات جبران تدعو إِلى التفكير العميق. إِن كنتَ تخافُ أَن تفكِّر، فالأَجدرُ بكَ أَلَّا تقرأَ جبران”.

هكذا، واحترامًا عُمْقَ جبران في كتاباته، نَفهم أَن يأْتي صاعقًا حاسمًا ردُّ “السمير” على “البشير” كما سأُورِدُهُ الأُسبوع المقبل حَرفيًّا في الجزء الآخر من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى