رسائل الريحاني الإِنكليزية: الفريكة على ناصية العالَم

هنري زغيب*

في ما سوى 64 عامًا (1876-1940) سيرةً حياتيةً قصيرة، وفي ما سوى 38 سنة مسيرةً كتابيةً كثيفة (30 كتابًا بالعربية منذ كتابه الأَول “نبذة في الثورة الفرنسية”، نيويورك 1902، و35 كتابًا بالإِنكليزية بينها 14 لا تزال مخطوطة)، يبقى أَمين الريحاني ظاهرةً أُعجوبيةً في أَدبنا: غزارةَ إِنتاجٍ وغنى مواضيع..

أَرقام ختامية؟ طبعًا لا.. فإِليها بعدُ: نحو 900 رسالة بالعربية (أَصدر مُعظَمَها شقيقُه أَلبرت كتابًا في بيروت سنة 1959)، ونحو 1000 رسالة بالإِنكليزية (نسَّقها أَمين أَلبرت الريحاني واختارت منها شقيقتُه مي الريحاني جزءًا أَوَّلَ في320 صفحة من 750 رسالة رَفَدَتْها بكل ما تطلَّبَتْهُ من هوامش وتعليق وتوضيح وتوثيق)..

أَهميةُ هذه الرسائل أَنها تُقدِّم لنا الريحاني في وجه آخر خارجَ مؤَلفاته، منبسطًا وسْع علاقاته السياسية والفكرية والأَدبية والخاصة، وهو وجه يركِّز فينا شخصيةً للريحاني في زمانه لا تقتصر على أَنه “مؤَسس الأَدب العربي الأَميركي” (منذ “كتاب خالد”، نيويورك 1911) بل أَنه تَوَازيًا ذو امتداد أَدبي وسياسي وعائلي (مع شقيقه يوسف في المكسيك)، وعاطفي (رسائله إِلى زوجته برثا كايس قبل طلاقه) إِلى إِضاءات ضرورية في الرسائل على تحضير رحلاته العربية التي بدأَها في تلك الفترة..

الرسائل الصادرة تقتصر على فترةٍ أُولى من حياته، أُولاها من نيويورك في 24 نيسان 1897 وأَخيرتُها ذاتَ سَبْتٍ من 1921. وأَحسنَت مي الريحاني بإِدراجها كرونولوجيًّا إِلى أَعلام أَميركيين وأُوروبيين وعرب: سياسيين ومؤَرخين وكُتَّاب وشعراء وأَكاديميين وناشطين.. ومن متابعات تلك الرسائل تتَّضح مطالعُ النهضة العربية في اللغة والفكر والأَدب، إِبَّان هيمنة السلطنة العثمانية ومرحلة الحرب العالمية الأُولى.. ويتَّسع أُفقُ علاقاته ممَّن راسلهم، بينَهم: الرئيس الأَميركي تيودور روزفلت، المؤَرخ الإِنكليزي أَرنولد تُوْيْنْبي، المؤَرخ السكوتلندي هاملتون جِبّ، المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، السيدة الأَميركية الأُولى إِليونور روزفلت، رئيس الوزراء البريطاني رامسي ماكدونالد، رئيس الجامعة الأَميركية في بيروت بايارد دودج، وعدد نخبوي من قادة العالم شرقًا وغربًا.. ومن هؤُلاء وسواهم نَفهم وَسَاعة مواضيع الريحاني في رسائله بين أَدبية وسياسية وفنية وفلسفية، مع انطباعات وآراء وأَفكار تُظهر البُعدَ الفكري في آفاق الريحاني.. وكان كتَبَ تلك الرسائل من الولايات المتحدة ولبنان وفرنسا ومصر والمكسيك وإِسبانيا، وقسمًا منها على متن بواخر إِبان عبوره الأَطلسي (نحو 40 رحلة أَطلسية ذهابًا وإِيابًا) فلم يكُن يَركُن إِلى الراحة في الباخرة بل يُدمنُ الكتابة المتواصلة تأْليفًا أَو رسائل..

تلك الغزارة المدهشة جعلَت الريحاني وجهَ النهضة الـمُشْرق، كما نوَّهَ صاحبُ مقدمة الكتاب الأَكاديميُّ الكبير روجر آلِن، بأَنَّ “تلك الرسائل تعطي قارئها أُفقًا كاملًا عن العالم العربي في النصف الأَول من القرن العشرين.. بعد تلك الرسائل بات على الحُكَّام والسياسيين والمواطنين اليوم في العالم العربي أَن يقرأُوا هذه الرسائل باهتمام وفائدة”.. وهذا يبرر ما جاء في رسالة الرئيس روزفلت إِلى الأَمين: “تَلْزَمني أُطروحة كاملة كي أُجيبَك عن رسالتك اللطيفة” (واشنطن، 10 أَيار 1901)، وهو ما يوضح هَيْبة الريحاني في عين صديقه جبران الذي كتَب إِليه: “ما أَسعدَني أَن تجمعَنا الأَيام في مدينة واحدة فنقفَ معًا في وجه الشمس، ونعي ما منحَ روحَينا الإِله” (بوسطن، 11 تشرين الثاني 1910)..

رسائلُ الريحاني الإِنكليزيةُ وجهٌ آخَرُ من وجوه العبقري الذي علَّق الفريكة على ناصية العالم..

شكرًا مي الريحاني.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى