إلى أَينَ تَتَّجِهُ سوريا الجديدة؟

ناصر السعيدي*

مع صُنعِ التاريخ في سوريا على مدى الشهر الفائت، تردّدت أصداءُ الصدمات الزلزالية في جميع أنحاء المنطقة. في البداية، شهد العالم التشنُّج النهائي لاتفاقية سايكس بيكو التي تعود إلى حقبة الحرب العالمية الأولى، والتي وصفها أحد المؤرّخين، بسخرية، بأنها “سلامٌ لإنهاءِ كلِّ سلام”. وربما يكون الأمر الأكثر سخرية هو أنَّ المُوَقِّعَين على تلك المعاهدة القديمة، بريطانيا العظمى وفرنسا، حضرا اجتماعًا في 14 كانون الأول (ديسمبر) مع تركيا -وريثة الإمبراطورية العثمانية التي مزقتها اتفاقية سايكس بيكو- إلى جانب الولايات المتحدة وألمانيا ودولٍ عربية للتداول بشأن مستقبل سوريا وخريطة إقليمية جديدة.

أمّا الخطوة التالية فهي زوال “محور المقاومة”، ومعه طموحات إيران الجيوستراتيجية ومحاولاتها لتوسيع قوّتها ونفوذها إقليميًا، ما أدّى إلى الخراب الاقتصادي والمالي لجميع البلدان المعنية، بما فيها العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن – ناهيك عن إيران نفسها.

ثالثًا، يُنهي انهيارُ نظام بشار الأسد آخر بقايا الاقتصادات الاشتراكية الخاضعة للسيطرة في العالم العربي، والتي فشلت في توليد النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، ولكنها خلقت بدلًا من ذلك دولًا هشّة وضعيفة. لقد قمع نظام الأسد الاستبدادي الإصلاحات السياسية وقاومها بعنف في بداية “الربيع العربي”، ما أدّى إلى إطلاقِ العنانِ لدورةٍ من العنف، وتخريبِ الاقتصاد، وتدميرِ مؤسّسات سوريا، وترسيخِ الفساد الشامل والتطرُّف، وتَفَتُّتِ البلاد على نحوٍ متزايد. والآن، هناكَ دولةٌ فاشلة أخرى على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب ليبيا ولبنان.

هل يمكن لسوريا الجديدة أن تَخرُجَ من تحتِ رماد الانهيار العسكري والاقتصادي والمالي والسياسي؟ التحدّيات هائلة.

بين العامين 2010 و2023، انكمشَ الناتجُ المحلي الإجمالي الحقيقي لسوريا بنسبة 84٪ في جميع القطاعات، وفقًا للبنك الدولي. كانَ الانهيارُ مدفوعًا بالعنف العسكري وتدمير البنية التحتية والجفاف ونزوح السكان وعدم الاستقرار الاقتصادي الكُلّي وانهيار الاستثمار والتجارة -حيث انخفضت الصادرات إلى مليار دولار في العام 2023 مقابل 8.8 مليارات دولار في العام 2010- وسط عُزلةٍ دولية متزايدة. وبحلول العام 2023، انهارت الليرة السورية بأكثر من 300 في المئة، إلى 14,122 ليرة سورية مقابل الدولار الأميركي الذي كان يساوي 47 ليرة سورية في العام 2011. تسارعَ الانكماشُ الحاد في الناتج المحلي الإجمالي خلال الحرب الأهلية بعد فَرضِ قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019، وهو نظامُ عقوباتٍ أميركي يستهدف أولئك الذين يتعاملون مع حكومة الأسد، والذي تسبّب، إلى جانب العقوبات الدولية التي فرضها الاتحاد الأوروبي ودولٌ أخرى، في ارتفاع التضخّم إلى 115 في المئة في العام 2023. ومع العُزلة المُتزايدة وغياب الإصلاحات السياسية والاقتصادية، أصبحت سوريا تعتمدُ بشكلٍ متزايد على إيران. وقد توسّعَ الاقتصاد غير الرسمي مدفوعًا بالتهريب وتجارة المخدرات، وخصوصًا في مادة الكبتاغون المخدِّرة من نوع الأمفيتامين، مما أدى إلى توليد ما يقدر بنحو 10 مليارات دولار سنويًا، وكان معظمها تحت سيطرة الأجهزة الأمنية والجيش وحلفاء الأسد.

إذًا، ما هي اللبنات الأساسية لبناء سوريا الجديدة؟ في ظلِّ هذه المجموعة الواسعة من التحديات، فإنَّ الانتقالَ المُتكامل إلى الحُكمِ الديموقراطي أمرٌ مطلوب ــ وهو ما يرتكز على الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية البنيوية. وبادئ ذي بدء، لا بُدَّ من وقفِ العنف واستعادة الأمن لضمان سلامة أراضي سوريا، فضلًا عن إعطاء الأولوية للتعددية السياسية التي تشمل الجماعات العرقية والدينية المتنوّعة في سوريا. وهذا يتطلّبُ دستورًا جديدًا، وانتخابات، وحكومة جديدة مدفوعة بالإصلاح لإزالة العناصر التأسيسية لمؤسّسات حزب البعث، وإرساء سيادة القانون، وتضميد الجراح العميقة للأمة من خلال هيئة “الحقيقة والمصالحة” لتحقيق المساءلة.

ثانيًا، يُشَكّلُ تأمين المساعدات الإنسانية أولوية، إلى جانب إنشاء صندوق لتمكين عودة وإعادة توطين نحو 7.2 ملايين نازح داخلي وأكثر من ستة ملايين لاجئ.

ثالثًا، تتراوح تقديرات تكلفة إعادة إعمار سوريا وإعادة تطويرها من 400 إلى 600 مليار دولار، وهي مطلوبة لإعادة بناء البنية الأساسية، نظرًا لتدمير الكثير من أنظمة الصحة والتعليم والمياه والنقل والطاقة في سوريا، إلى جانب القطاعات الإنتاجية. لقد تعرّضت مدن سوريا ــبما فيها حلب وحمص وحماة وداريا ودير الزورــ لعمليات إبادة جماعية منهجية، ما أدّى إلى نزوحِ السكان والانهيار الاقتصادي والاجتماعي. وسوف تكون هناك حاجة إلى مساعداتٍ دولية لإعادة الإعمار وإعادة التطوير، ومُنَح، وحزمة مالية. وينبغي إلغاء الديون البغيضة التي تراكمت على نظام الأسد، وسيتعيّن رفعُ العقوبات الدولية. ويُمكِن تسخيرُ الموارد الطبيعية الكبيرة في سوريا، بما في ذلك النفط والغاز والفوسفات، لدعم تمويل إعادة الإعمار، مع وجود بنية تحتية لخطوط أنابيب الطاقة تربط سوريا بدول مجلس التعاون الخليجي.

رابعًا، يتطلّبُ بناءُ اقتصادٍ سوري حديث تفكيكًا جذريًا للاقتصاد المُسيطر إلى جانب مؤسساته الحكومية الفاسدة الخاضعة للسيطرة السياسية والمؤسسات المرتبطة بالحكومة، ما يسمح بعودة القطاع الخاص. في المقابل، سيتطلّب هذا الأمر إعادةَ هيكلة المؤسّسات، مع إصلاح السياسات الاقتصادية والاجتماعية والنقدية والمالية والضريبية والتجارة الخارجية والاستثمار من أجل جذب رأس المال المحلي والأجنبي ــبما في ذلك المغتربين ــ لإعادة الإعمار وإعادة التنمية.

خامسًا، ستتطلّبُ إعادةُ بناء وإعادةُ تنمية اقتصاد سوريا إعادةَ دَمجِ البلاد سياسيًا وديبلوماسيًا واقتصاديًا وماليًا في الاقتصاد الإقليمي والدولي، مع روابط عميقة مع دول مجلس التعاون الخليجي.

وسيتعيَّن إعادة بناء سوريا الجديدة من أساسها لإلغاء 61 عامًا من الدمار، وإلغاء التنمية، والحكم الاستبدادي، والفساد المستشري وسوء الإدارة. إنَّ الفشلَ في ضمانِ انتقالٍ مُتكامل يشمل الأبعاد السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية لسوريا الجديدة سوف يتردّد صداه ويُزعزعُ استقرارَ المنطقة بأسرها. لقد فشلت عملية بناء الأمة في أفغانستان والعراق وليبيا والسودان. إن المنطقة لا تستطيع أن تتحمل فشلًا آخر. فالمخاطر تتجاوز سوريا.

  • ناصر السعيدي هو سياسي وخبير اقتصادي لبناني شغل منصب وزير الاقتصاد والصناعة ونائب حاكم مصرف لبنان المركزي لفترات عدة في العقد الأخير من القرن العشرين. وهو حاليًا مؤسس ورئيس شركة ناصر السعيدي وشركاه.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى