اليونِسكو ذاكِرةُ العالم (2 من 2)

السدو في السعودية

هنري زغيب*

مرت في الجزء الأول من هذا المقال نبذة عن مفهوم منظمة اليونسكو حول التراث المادي وغير المادي، مع نماذج عليه من تراث لبنان في خمسة مواقع.

في هذا الجزء تتمة الموضوع حول التراث المنادي وغير النادي في عدد من دول العالم.

في اللائحة العالميّة…

بين الظواهر العالمية للتراث غير المادي: الصونا التقليدية في فنلندا. وهي ظاهرة اجتماعية قديمة في تلك البلاد منذ آلاف السنين، يزاولها نحو 3 ملايين فنلندي من أَصل سكانها الخمسة ملايين، بمعدَّل مواطن مرة في الأُسبوع على الأَقل. وهو تقليدٌ شعبيٌّ في حياة الفنلنديين اليومية في بيوتهم أَو في حمَّامات عامة. وهم لا يعتبرون الصونا مجرد استحمام فقط بل غسل الجسد والفكر وبلوغ السلام الداخلي.

من مالطة: فن صُنع خميرة العجين (الفطيرة)، ومن زامبيا ظاهرة “البوديما” وهي رقصة المحاربين يزاولها الزامبيون طوال السنة في احتفالات ومناسبات وطنية.

ومن البوسنة عملية جَزّ العشب في مدينة كوﭘْـرِس التي تشهد أَبرز حدث سنوي كل أَول أَحد من تموز (يوليو): مباراة في مرج سْتْريانِكا، يفوز بها الأَسرعُ في جَــزّ أَكبر كمية عشب أَخضر متطاول عاليًا في ذاك المرج الواسع، بـمنجل تقليدي خاص بأَقل وقت وأَكبر جهد وأَكثر عدد من جذوع الأَعشاب، ما يتطلب قوة ذراعَين ومهارة خاصة. وهو تقليد شعبي يتوارثه الأَبناء عن آبائهم.

من إِيطاليا ظاهرة النفخ في قرن الصيد، وهي بدأت في فرنسا ثم انتقلت إِلى شمال إِيطاليا فنًّا شعبيًّا تقليديًّا. ومن البندقية فنٌّ يدويٌّ جميل متوارَث منذ القرن الرابع عشر: صناعة الكُرات والسُبحات والحلقات الزجاجية. اشتهرت به مجموع جُزَيرات مورانو (البندقية) بأَفران زجاج منفوخ يُصنِّع منه الحرفيون أَشكالًا كثيرة.

جز العشب في البوسنة

… وفي اللائحة العربيّة

من الدول العربية، بين فنون المآكل الشعبية: وجبة “الكوسْكوس” الأَفريقية التقليدية، وهي طبق شعبي مغاربي (دول المغرب العربي) من أَصول أَمازيغية (قدامى سكان شمال أَفريقيا). ولا يغيب الطبق عن موائدهم ومناسباتهم، لبراعة صنعه وتحضيره من طحين القمح أَو الذرة، يتم إِعداده وتحويله حُبَيبات صغيرة تُطبخ بالبخار وتضاف إِليها أَصناف اللحم أَو الخُضَر أَو الحليب أَو الزبدة والسُكَّر الناعم ويقدَّم بالمرق أَو باللبن أَو بدونهما. وهو شائع أَيضًا في جزيرة صقلية الإِيطالية وحتى في فرنسا ممثِّلًا ثاني أَكلة مفضلة لدى الفرنسيين.

من المملكة العربية السعودية والكويت، حرفة السَدُو: نسيج تقليدي بدوي تراثي يستخدمه الحرفيون بـِوَبر الجمل أَو شَعر الماعز أَو صوف الغنم ليحوكوا خيمةً (بيت الشَعر) تقي صيفًا من حرارة الشمس ومن البرد في ليالي الصحراء.

ومن الإِمارات العربية: نظام الأَفلاج القديم جدًّا، ومهمٌّ في حياة مزارعين يسكنون عند مجاري المياه والمسطحات المائية، يتطلَّبُ مهارة الحفر لبلوغ المياه الجوفية الصافية وإِخراجها من باطن الأَرض وجرّها بطُرق بدائية إِنما متينة في قنواتٍ توزِّع المياه على البيوت والأَراضي الزراعية لـريّ النباتات والأَشجار المثمرة، عبر إِسالة الماء تحت الأَرض من أَمكنة أَعلى من المنطقة المقصودة، فيتأَمَّن الريُّ الدائم المتواصل.

ومن تونس حرفة “الشرفية”: وسيلة صيد تقليدية بتشكيل مصائد ثابتة في البحر تبنى بسعف النخيل. وهي من أَقدم وسائل الصيد البحري التقليدي اشتهرت بها جزر قرقنة التونسية (ساحل البلاد الشرقي) منذ عهود سحيقة القدم.

الأفلاج في الإمارات العربية

حرَف مهدَّدة بالزوال

ومن الحِرَف المهدَّدة بالزوال وضرورة العمل على إِنقاذها،حرفة النَول في صعيد مصر: مهنة قديمة معقَّدة تستلزم الصبر والوقت والجهد والمهارة، بين تركيب النول وإِدراج الخيطان في مفاصله المتعددة المتشعبة ثم الحياكة، في عمل دقيق تلزمه حذاقة وبراعة.

الخبز في مالطة

هذا النول الحائك العادي للنسج، يقابله النول الفني في بلدة زوق مكايل اللبنانية، وهذه المهنة فيها ما زالت ناهضة، ولها في سوقها العتيق عددٌ من الأَنوال العاملة باستمرار، ومدرسة خاصة لتعليم حياكةِ النول الأَجيال الشابةَ هذه الحرفة التقليدية، و”متحف النول” الفريد الذي يضم منسوجات قديمة على النول بأَيدي حائكين زوقيين، يَرقى بعضها إِلى سنة 1920. فعسى تهيِّئُ البلدية ملفًّا للنول الفني فيها تَرفعه إِلى منظمة اليونسكو فيَدخل النَول الزوقي اللبناني إِلى لائحة “تُراثِ البشريَّة الثقافيّ غيرِ الماديّ”.

بلى: أَبلغُ تعريف بالتراث أَنه ذاكرة. ويا تعس بلاد لا تحفظ تراثها فتفقد ذاكرتها وينهار ماضيها ويسقط جسر تقدُّمها في كيان التاريخ.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى