الذكاءُ الاصطناعي يزيدُ من تَفاقُمِ التَفاوُت العالمي

فيما تُعَوّلُ الدولُ الغنية المُتقدّمة على الذكاء الاصطناعي لمستقبلٍ مُشرقٍ، يبدو أنَّ الموجةَ المُقبلة من هذه التكنولوجيا من المتوقع أن تزيدَ من تفاقُم التفاوت العالمي وإفقار “الجنوب العالمي”.

سام ألتمان: البحث عن 7 تريليونات دولار لبناء مستقبلٍ مدفوع بالذكاء الاصطناعي.

راشيل آدامز*

الذكاءُ الاصطناعي يُغَيِّرُ بُنيةَ اقتصادنا العالمي، ولكن من غير المرجح أن يستفيدَ منه الجميع. يحتفل المدافعون عن الذكاء الاصطناعي بإمكاناته في فكِّ رموزِ التحدّيات العالمية المُستَعصية وحتى إنهاءِ الفقر، ولكن إنجازاته في هذا الصددِ هزيلة. بدلًا من ذلك، من المتوقع الآن أن يرتفعَ التفاوت العالمي. ومن المتوقع أيضًا أن تشهدَ البلدان التي تُعَدُّ موطنًا لتطوير الذكاء الاصطناعي والقادرة على دَمجِ هذه التقنيات في الصناعة نموًّا اقتصاديًا متزايدًا. لكنَّ بقيّةَ دول العالم، التي تُواجِهُ حواجِزَ حَرِجة لتبنّي الذكاء الاصطناعي، ستتخلّف أكثر فأكثر عن الركب.

لقد أدّى إدخالُ التكنولوجيات الجديدة إلى المجتمع تاريخيًا إلى التنمية الاقتصادية والنمو. غالبًا ما يتمُّ تصميمُ التكنولوجيا للقيام بذلك من خلال تعزيز الإنتاجية: على سبيل المثال، مكّنت ماكينة الخياطة أو الجرّار من صُنعِ المنسوجات أو إنتاجِ المحاصيل بشكلٍ أسرع. منذ مطلع القرن، كانت التكنولوجيا الرقمية قوّةً اقتصادية قوية بشكلٍ خاص. في الولايات المتحدة، وفقًا لدراسةٍ أُجرِيَت في العام 2021، زادت مساهمة الإنترنت الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 22% سنويًا منذ العام 2016. وتبلغُ قيمة الاقتصاد الرقمي في الولايات المتحدة الآن أكثر من 4 تريليونات دولار.

الواقعُ أنَّ الذكاءَ الاصطناعي يُشكّلُ قوّةً جديدةً وقويةً للنمو الاقتصادي. في العام 2017، حاولت شركة الاستشارات الدولية “برايس ووترهاوس كوبرز” وَضعَ سعرٍ للقيمة التي قد يجلبها الذكاء الاصطناعي إلى الاقتصادات الوطنية والناتج المحلي الإجمالي العالمي. وفي تقريرٍ رائد بعنوان “تحديد حجم الجائزة”، تفاخرت شركة الاستشارات بأنَّ الذكاء الاصطناعي سيُساهم بحلول العام 2030 بنحو 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي. ومن المتوقع أن تحصلَ الصين وأميركا الشمالية وأوروبا على 84% من هذه الجائزة. أما الباقي فيتوزّعُ على بقية أنحاء العالم، حيث من المتوقع أن تحصل أميركا اللاتينية على 3%، و6% في آسيا المتقدمة، و8% في الكتلة الكاملة “لأفريقيا وأوقيانوسيا وغيرها من الأسواق الآسيوية”، كما أطلقت عليها “برايس ووترهاوس كوبرز”.

وفي أعقابِ ظهورِ تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل سلسلة “جي بي تي” (GPT) من شركة “OpenAI”، قدّرت مؤسسة “ماكينزي” أنَّ هذا الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يزيدَ من القدرة الإنتاجية للذكاء الاصطناعي عبر الصناعات بنسبة تتراوح بين 15 و40%، وهو ما قد يُضيفُ ما يصلُ إلى 4.4 تريليونات دولار سنويًا إلى الاقتصاد العالمي. وهذه تقديراتٌ تُعتَبَرُ على نطاقٍ واسع تقديراتٍ مُتحفّظة. إنَّ قدرات مجموعة نماذج اللغة الكبيرة الجديدة، والتي يُعَدُّ “تشات جي بي تي” (ChatGPT) جُزءًا منها، مهمّة بشكلٍ خاص لقدرتها على رَفعِ مستويات الإنتاجية، وخصوصًا عبر اقتصادات المعرفة حيث تُشكّلُ المهامُ القائمة على اللغة أساسَ الناتج الإنتاجي.

يتضمّن تقريرُ “ماكينزي” أيضًا تفصيلًا للقطاعات والوظائف الإنتاجية المُتَوَقَّع أن تُحقّقَ أكبر قدرٍ من النمو – وخصوصًا الصناعات عالية التقنية (التكنولوجيا، واستكشاف الفضاء، والدفاع)، والخدمات المصرفية، وتجارة التجزئة. وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ الصناعة التي من المرجّح أن تشهدَ أقلَّ قدرٍ من النمو هي الزراعة، أكبر قطاع في أفريقيا بفارقٍ كبير، والمصدر الرئيس لسُبُلِ العيش والتوظيف في القارة السمراء.

كانت حسابات “ماكينزي” في وقتٍ مبكر من ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي، عندما كانت المعلومات حول الطرق التي قد تعمل بها تقنيات الذكاء الاصطناعي على تحسين الإنتاج الزراعي في السياقات النامية، محدودة. واليوم، هناك عددٌ مُتزايدٌ من حالات الاستخدام التي تُوَضِّحُ قيمةَ الذكاء الاصطناعي في الصناعات الزراعية الأفريقية. في تنزانيا، يستخدمُ باحثٌ في جامعة “سوكوين” للزراعة تقنياتِ الذكاء الاصطناعي التوليدي لإنشاءِ تطبيقٍ يُمكنُ للمزارعين المحلّيين استخدامه لتلقّي المشورة بشأنِ أمراض المحاصيل، والعائدات، والأسواق المحلية لبيع منتجاتهم. في غانا، يقوم الخبراء في مختبر الذكاء الاصطناعي المسؤول بتصميم تقنيات الذكاء الاصطناعي للكشف عن الأغذية غير الآمنة. ومع ذلك، لا تزالُ مثل هذه الحالات محدودة في الحجم والتأثير. في هذه المرحلة، ليس من الواضح ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيكون تحويليًا في السياقات الأفريقية كما يحمل وعده.

إنَّ تبنّي الذكاء الاصطناعي في المناطق النامية محدودٌ أيضًا بتصميمه. غالبًا ما لا يكون الذكاء الاصطناعي المُصَمَّم في وادي السليكون في كاليفورنيا على بياناتٍ باللغة الإنكليزية إلى حدٍّ كبير مُناسبًا للغَرَضِ خارج السياقات الغربية الغنية. يتطلّبُ الاستخدامُ الإنتاجي للذكاء الاصطناعي الوصولَ المُستَقِرّ إلى الإنترنت أو تقنية الهواتف الذكية؛ في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لا يتمتّع سوى 25% من الناس بإمكانية الوصول إلى الإنترنت بشكلٍ موثوق، وتُشيرُ التقديرات إلى أنَّ احتمالاتَ استخدامِ النساء الأفريقيات للإنترنت عبر الهاتف المحمول أقل بنسبة 32% من نظرائهن من الرجال.

كما يتمُّ تطويرُ تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكلٍ أساس باستخدامِ اللغة الإنكليزية، ما يعني أنَّ النتائجَ التي تُنتِجها للمستخدمين والسياقات غير الغربية غالبًا ما تكون عديمة الفائدة وغير دقيقة ومُتَحيِّزة. يتعيّنُ على المُبتَكِرين في “الجنوب العالمي” بذل جُهدٍ مضاعَف على الأقل لجعل تطبيقات الذكاء الاصطناعي الخاصة بهم تعمل في السياقات المحلية، غالبًا من طريق إعادة تدريب النماذج على مجموعاتِ البيانات المحلّية ومن خلال ممارسات التجربة والخطَإِ المُكثّفة.

إنَّ الذكاءَ الاصطناعي مُصَمَّمٌ لتوليد الربح والترفيه فقط للمُتَمَيِّزين بالفعل، ولن يكونَ فعّالًا في معالجةِ ظروف الفقر وتغيير حياة المجموعات المُهَمَّشة من أسواق المستهلكين للذكاء الاصطناعي. وبدون مستوى عالٍ من التشبّعِ عبر الصناعات الكبرى، وبدون البنية الأساسية اللازمة لتمكين الوصولِ المُجدي إلى الذكاء الاصطناعي من قبل جميع الناس، فمن غير المرجّح أن ترى دول “الجنوب العالمي” فوائد اقتصادية كبيرة من التكنولوجيا.

مع تبنّي الذكاء الاصطناعي عبر الصناعات، يَتغيَّرُ العمل البشري. وبالنسبة إلى الدول الأكثر فقرًا، فإنَّ هذا الأمر يؤدّي إلى سباقٍ جديد نحو القاع حيث أصبحت الآلات أرخص من البشر والعمالة الرخيصة في الخارج التي كانت تُنقَلُ إلى أراضيها الأعمال تُنَقلُ الآن إلى الدول الغنية. والأشخاص الأكثر تضرّرًا هم أولئك الذين لديهم مستويات تعليمية أقل ومهارات أقل، والذين يُمكِنُ أتمتة وظائفهم بسهولة أكبر. باختصار، قد يتأثر جُزءٌ كبير من السكان في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، مما يؤثّر بشدة في حياة الملايين من الناس ويُهدّدُ قدرةَ الدول الأكثر فقرًا على الازدهار.

إنَّ تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي تُهدِّدُ الطبقة المتوسّطة الصاعدة في السياقات النامية. وتُشيرُ تقديراتُ تقريرٍ حديثٍ صادرٍ عن البنك الدولي إلى أنَّ ما يصل إلى 5% من الوظائف مُعَرَّضة لخطر الأتمتة الكاملة من جانب الذكاء الاصطناعي في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، وأنَّ النساء هنَّ الأكثر عُرضةً للتأثُّر. وفي البلدان حيث يُشكّلُ خَلقُ الوظائف والاقتصادات الرسمية أولوية رئيسة للتنمية، من المتوقّع أن يدفعَ الذكاءُ الاصطناعي ملايين الأشخاص إلى عملٍ غير آمن أو مؤقت أو تعاقُدي غير مضمون.

الواقعُ أنَّ اقتصادات العمل المؤقّت تشهدُ ارتفاعًا سريعًا. وفي الوقت الحاضر، تُشيرُ تقديراتُ البحوث إلى أنَّ حصّةَ اقتصادِ العمل المؤقت في السوق العالمية تبلغ 500 مليار دولار، ولكن من المتوقع أن ترتفعَ إلى ما يقرب من تريليوني دولار بحلول العام 2032. والملايين من عمال العمل المؤقت (ما يُقَدَّر بنحو 30 إلى 40 مليونًا) من مختلف أنحاء “الجنوب العالمي”. والعاملون في اقتصادات المنصّات، مثل سائقي التوصيل، يوازنون في كثيرٍ من الأحيان بينَ العديدِ من الوظائف من أجلِ كَسبِ ما يكفي بالكاد للعيش، وبالتأكيد ليس ما يكفي للهروب من حياة الفقر. وعلى الصعيد العالمي، يتمتّعُ عمّال المنصّات والعمل المؤقت بحقوقِ عملٍ محدودة، حيث وَجَدَ المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي المسؤول أنَّ سبعَ دول فقط على مستوى العالم لديها قوانين قابلة للتنفيذ تحمي هؤلاء العمال.

وفي حين يخلق الذكاء الاصطناعي حالةً من عدم اليقين لدى الفقراء، فإننا نشهد أكبر عمليةِ نَقلٍ للدخل إلى أعلى شرائح المجتمع. وعلى الصعيد العالمي، جمع أغنى 1% ثلثي الثروة المُتولّدة بين العامين 2020 و2022، وفقًا لتقديرات منظمة “أوكسفام”. إنَّ أغنى هؤلاء جميعًا هم الطبقة الجديدة من مليارديرات التكنولوجيا، المُزَوَّدين بالقوة والمال والنفوذ لصياغة العوالم التي يريدون العيش فيها. إنَّ شركات التكنولوجيا هي من أكبر الشركات في العالم. فشركة “أبل”، التي تحتل المرتبة الخامسة بين أكبر الشركات على مستوى العالم، تتمتّعُ بقيمةٍ سوقية تفوق الناتج المحلي الإجمالي للقارة الأفريقية.

إنَّ ثروةَ شركاتِ التكنولوجيا لا ترسمُ صورةً للتفاوت الصارخ في قلب الذكاء الاصطناعي فحسب، بل إنها تخلق أيضًا حاجزًا أمام الجهات الفاعلة الأخرى لإنتاج تقنيات الذكاء الاصطناعي. لقد شَرَعَ أخيرًا الرئيس التنفيذي لشركة “OpenAI”، سام ألتمان، في حملةٍ لجمع 7 تريليونات دولار لتشغيلِ مُستقبلٍ مدفوعٍ بالذكاء الاصطناعي. هذا هو نوعُ المبلغ المطلوب لإنشاء البنية التحتية للحاسوب العملاق اللازمة لإنشاء نماذج الذكاء الاصطناعي الرائدة. إنها ليست رياضة يستطيع الجميع تحمّل تكلفتها.

إنَّ الحَوسَبة، التي تُعَدُّ ضرورية لإنشاء تقنيات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، هي واحدة من أغلى الموارد في العالم. وهناكَ فجوةٌ عالمية كبيرة في الوصول إلى موارد الحَوسَبة. في المجمل، يضمُّ “الجنوب العالمي” ما يزيد قليلًا على 1% من أفضل أجهزة الكمبيوتر في العالم، وأفريقيا 0.04% فقط. وفي الوقت الحاضر، ومع هذا النوع من القدرة الحاسوبية المُتاحة في أفريقيا أو أميركا الجنوبية، فإنَّ الأمرَ سيستغرق مئات السنين لمواكبة التقدُّم الذي أحرزه الذكاء الاصطناعي التوليدي في الغرب والشرق المُتقدّم.

إنَّ التكاليفَ التي تتحمّلها الدول الأكثر فقرًا لمواكبة سباق الذكاء الاصطناعي باهظةٌ للغاية. وقد يتمُّ تحويلُ الإنفاق العام بعيدًا من الخدمات الحيوية مثل التعليم والرعاية الصحية. وفي حين ينبغي لحكومات “الجنوب العالمي” أن تكونَ مُنسَجِمة مع ثورةِ الذكاء الاصطناعي، ينبغي لصنّاع القرار أن يُقَيِّموا عن كثب التأثيراتَ التي يُخلّفها الذكاءُ الاصطناعي على اقتصاداتهم.

  • راشيل آدامز هي الرئيسة التنفيذية للمركز العالمي لحَوكَمة الذكاء الاصطناعي، ومؤلفة كتاب “إمبراطورية الذكاء الاصطناعي الجديدة: مستقبل التفاوت العالمي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى