“فاجأناكم مو!”

محمّد قوّاص*

أخرَجت تطوّرات سوريا البلد من الهامش الذي انحشرَ داخله منذ سنوات. قبل ذلك بدا العالمُ مُتَحرِّكًا بدينامياتِ حرب أوكرانيا. وراحت التحوّلات تتسلّل إلى الشرق الأوسط، وتُحدِثُ زلازل منذ “طوفان الأقصى”  قبل عام. وحده بقيَ الوضعُ السوري ساكنًا في مُراوحةٍ لا تنتهي. وحين “سقطت حلب” فجأةً استرجعَ السوريون والعواصم المَعنيّة بشؤون بلدهم سيرةَ صراعٍ لم ينتهِ منذ انفجاره في العام 2011.
في العام 2015 رسمت روسيا، مُتسلّحةً برعايةٍ أميركية وتواطُؤٍ إسرائيلي، خطوطَ أمرٍ واقعٍ أوقفَ زحفًا كاد يُسقطُ دمشق. حمل قائد فيلق القدس آنذاك، قاسم سليماني، ملفًّا مُلتهبًا إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مُتَوَسِّلًا تَدَخُّلًا يُنقذُ ما عجزَ عنه “مستشارو” طهران وميليشياتها. حمل بوتين الملف متشاوُرًا مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، والرئيس الأميركي، باراك أوباما، وكان له ما وفّر بيئةً دولية عامة لإطلاق مقاتلاته في أجواء سوريا ابتداءً من 30 أيلول (سبتمبر) 2015.
تَغَيَّرَ الزمن، وتبدّلت أحوالُ العالم. باتت روسيا غارقةً في حربٍ مُرهِقة تراها “وجودية” في أوكرانيا. تراجعَ نفوذُ طهران، لا سيما وهج ميليشياتها، من أفغانستان إلى لبنان، ودخلت إيران نفسها في حربٍ مباشرة مع إسرائيل يطمح نتنياهو أن تكون اجتثاثية دولية شاملة. بالمقابل، فإنَّ تركيا، الضلع الثالث من آلية “أستانا”، بدت في الأيام الأخيرة مُمسكة بزمام المبادرة، مُتحرِّكة برشاقة لفَرضِ أمرِ واقعٍ ميدانيٍّ جديد.
لا نعرف كثيرًا عن أسرار توقيت وطبيعة العملية العسكرية التي أطلقتها فصائل معارضة سورية، منها “هيئة تحرير الشام”، من أجل استعادة مناطق رسمتها لهم اتفاقات “خفض التصعيد”. قالت المعلومات إنه كانت للعملية سقوفٌ محدودة تُفسِّرُ ربما شلل المقاتلات الروسية، وأنَّ انهيارًا في صفوف الجيش السوري والميليشيات التابعة لإيران فَتَحَ شهية المهاجمين لتوَسُّعٍ أسقطَ حلب بعد أريافها وتمدّدَ باتجاه حماه.
وَسّعت تركيا، التي تنأى بنفسها عن ضلوعٍ رسمي بالقتال، نفوذها شمال البلاد مُتَخلِّصةً من جُزءٍ من تمدُّدٍ كردي تعتبره إرهابيًا على حدودها. تُقاربُ واشنطن الحدث بحذر غير مُعاندة لتعرُّضِ نفوذ طهران لتآكلٍ وضعف. لا يضيرُ موسكو ضيق أحوال إيران في سوريا طالما لا ينال من مكانة روسيا داخل خرائط سوريا. تتأمل إسرائيل تطوّرًا من شأنه إغلاق “هلال” طهران-بيروت الشهير، لكنها، حسب المُعلَن رسميًا، تُراقبُ مع واشنطن محاذير الانهيار الشامل المُحتَمل.
هي لحظةُ مَيادين تُرَجِّحُ خروجَ مشهدٍ سوريٍّ جديد يُعيد توزيع الحصص وفقَ حسبةٍ جديدة. ترفع تركيا لواء التسوية السياسية الداخلية والحوار بين نظام ومعارضة وفق قرار الأمم المتحدة رقم 1554. تلاقي في هذا بلادةً أوروبية-أميركية تمترست خلف الموقف والقرار من دونِ أيِّ جهد لتحريك البيادق على رقعة اللعب. لا تحبُّ طهران تسويةً أممية تُحرّك “مُقدّس” ديمومة النظام. وحدها روسيا تتعامل مع الثابت والمُتحوّل طالما أنه يضمن استمرارًا لإطلالتها على الشرق الأوسط من خلال إطلالته من شواطئ سوريا على شرق المتوسط.
تتواصَلُ العواصم. بعضها يتبرّمُ من إرهابٍ يتناسلُ ذكره من ذكرى تنظيم “داعش” المقيتة. بعضها يرى في الأمر “صراعَ أُمم”. الرئيس السوري، بشّار الأسد، يرى تغييرًا لخرائط المنطقة. تُجاريه طهران التي تشتبه في “اللعبة التركية”، بروائح “مؤامرة أميركية-صهيونية”، سهلة البيع والتسويق. موسكو التي تأخّرَ رَدُّ فعلها استنتجت، غمزًا من قناة تركيا، أنَّ هجومَ مقاتلين سوريين معارضين هو “انتهاكٌ لسيادة” سوريا.
يسهلُ على المراقب تأمّل ذهاب الميادين إلى تشكيل مساحاتها. ابتلع الأكراد مصابهم غرب نهر الفرات وارتضوا، بناءً على نصائح أميركية، التراجع أمام “طوفان” سوريا. لكنهم في موسم الولادات الجديدة أطلقوا معركتهم، ضد قوات النظام، لتوسيع مساحاتهم شرق الفرات. قيل عن تدخُّلٍ لقوّات “حشدية” تندفع من بغداد نجدةً لدمشق. أقسم قادة العراق بالنفي والإنكار، وحين أُثيرَ احتمالُ أن يكون التدخّل من قبل “فصائل المقاومة”، فكان الجواب صاعقًا: “يحق لهم ما لا يحق لغيرهم” فهم أبناء “المحور” الشهير.
يجري بحثُ مصير إدلب وحاضر حلب ومستقبل الشمال. لا أحد يريد أن يرى أنَّ في سوريا “قضية” مفتاحها في دمشق. وأنَّ لا مخرج لسوريا، إلّا عقد اجتماعي جديد يرضاه السوريون جميعًا. من شأن ذلك توفير بيت داخلي يضع قواعد سليمة لعلاقة البلد مع محيطه القريب والبعيد. صادق مجلس الأمن الدولي على خارطة طريق مُفرِطة في بساطتها. حوارٌ ودستورٌ وانتقالٌ سياسي وانتخابات. مُفردات لم نسمعها في المداولات الأخيرة إلّا من بابِ كيديةٍ عارضة. أحبت العواصم سبات سوريا. لسان حالها يقول بحزنٍ وقلقٍ هذه الأيام: “فاجأناكم مو!”.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى