هل تُحَدِّدُ الرؤيةُ السعودية مُستَقبَلَ الشرق الأوسط الجديد؟

رباب خان*

يواجه ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في مسعاه لتنفيذ ما يسعى إليه من اصلاحاتٍ اقتصادية داخلية تُراعي توجُّهات الرأي العام الداعمة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، أمواجًا عاتية تُحرّكها ما تشهده المنطقة من اضطراباتٍ وعواصف. والحقيقة أنَّ الدورَ المحوري الذي تلعبه الرياض في ظلِّ التحوُّلات التي يشهدها الشرق الأوسط الجديد لا يمكن أن يقتصرَ على المناورات الديبلوماسية التقليدية، بل يتطلّبُ نهجًا شاملًا يُعيد تشكيل النفوذ الإقليمي للدولة السعودية ويساعدها على تحقيق التنوّع الاقتصادي والقيادة المستدامة والسلام والأمن لجميع شعوب المنطقة. قد يؤدي نجاح المملكة في تحقيق التوازن بين هذه الأولويات إلى إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، بل وقد يُغيّر توقّعاتها المستقبلية.

لقد اتسم التناول السعودي لقضية التطبيع مع إسرائيل دائمًا بالحذر والتأنّي، ولكن ما أن وقعت أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، حتى تحوّل الخطاب الرسمي للمملكة من السعي الحذر نحو التطبيع إلى دعم حقوق الشعب الفلسطيني والتأكيد على أنَّ قيامَ دولة فلسطينية يجب أن يكون شرطًا مُسبقًا لأيِّ نوع من التعاون في مسألة التطبيع. ويعكس هذا الموقف إدراك السعودية الكامل لاستحالة تحمُّل مسؤولية القضية الفلسطينية بشكلٍ فردي حتى مع كونها محورًا إقليميًا رئيسًا.

من ناحية أخرى، برعت دولة قطر في الاستفادة من مواقفها الحيادية ومهاراتها الديبلوماسية لتلعب دورًا بارزًا كوسيطٍ في حلِّ النزاعات الإقليمية.على سبيل المثال، أشرفت الدوحة على  حوار بين إسرائيل و”حماس”، وتعاونت مع الولايات المتحدة ومصر في المفاوضات الرامية لتحقيق وقفٍ إنساني مؤقت للقتال. كذلك استثمرت الدوحة بشكل كبير في وسائل الإعلام ما ساعدها على تعزيز قدرتها على تشكيل الرأي العام والتأثير الفعال في السرديات السياسية. كل هذه العوامل من حضور إعلامي واستراتيجي ساهم في تعزيز مصالح قطر وصياغة رؤيتها وخطابها حول الأحداث الإقليمية المحورية، ما رسّخ مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة.

على الرُغم من اتفاقية العُلا لعام 2021، والتي أعادت العلاقات بين الرياض والدوحة بعد قطيعةٍ دامت سنوات عدة، فإنَّ العلاقات بين الجارتين لم تتجاوز ما بينهما من تنافس ورغبة في بسط النفوذ من خلال القوة الناعمة التي يوطّدها الإعلام والرياضة والعلاقات الديبلوماسية وليس فقط السياسة. وعلى نحوٍ مُماثل، عززت إيران مكانتها الإقليمية من خلال مناصرة القضية الفلسطينية وتعزيز ما يسمى “محور المقاومة” الذي ساعدها على التأثير في السياسة الإقليمية. وقد  بدأت طهران مناوراتها الديبلوماسية في أعقاب هجمات حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، عندما عزز الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي علاقات بلاده مع الرياض من خلال ارتداء الكوفية الفلسطينية، مُدَلِّلًا على قدرة إيران على التكيُّف وعلى قوة تحالفاتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وعلى الرُغم مما شهدته العلاقات السعودية-الإيرانية من انفراجٍ أخيرًا، إلّا أنَّ  تأثير التوترات التاريخية لا يزال قويًا تمامًا مثل التوترات السعودية-القطرية.

على الرغم من أن المملكة قد اتخذت خطواتٍ تدريجية نحو التعاون مع إسرائيل، إلّا أنَّ موقفها العام يميل أكثر للتواؤم مع مبادرة السلام العربية (التي أُطلِقت في بيروت في العام 2002) التي تشترط إقامة دولة فلسطينية لإنهاء الصراع وحل القضية. وقد يفسر هذا التوجه التردّد السعودي في الانضمام رسميًا إلى الاتفاقات الإبراهيمية —وهي سلسلة من الاتفاقيات التي تتيح الاعتراف بإسرائيل— رغم توقيع دول عربية عدة، من بينها الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، على المبادرة. في الوقت ذاته، كانت واشنطن تأمل أن تسهم جهود التطبيع بين السعودية وإسرائيل في تخفيف المخاوف الأمنية التي تمثلها إيران ووكلاؤها وتعزيز الاستقرار الإقليمي وتعميق التعاون بين حلفائها في الخليج لمساعدتها على مواجهة الوجود الصيني المتنامي والذي رسخته مبادرة الحزام والطريق. مع أن واشنطن لا تزال تسعى إلى تحقيق أهدافها هذه من خلال دعم مبادرات جديدة في الشرق الأوسط، مثل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط واوروبا  (IMEC)، إلّا أنها لا تستطيع أن تتجاهل أهمية الدور السعودي الذي زادت محوريته بعد عودة قضية الدولة الفلسطينية للواجهة في أعقاب هجمات تشرين الأول (اكتوبر).

تحتاج واشنطن الآن إلى دعمٍ إقليمي لتعزيز شراكاتها ومواجهة منافسيها بفعالية. ويُعتَبَرُ تأمين دعم الرياض أمرًا حاسمًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من تعدد العوامل المؤثرة على الأوضاع الحالية، نظرًا للعلاقات الديبلوماسية الكبيرة التي تتمتع بها المملكة في العالم العربي وحتى  مع إسرائيل وإيران. وبضمان الدعم السعودي، يمكن لواشنطن الحد من النفوذ الإيراني والصيني، ومعالجة أزمة إسرائيل وفلسطين، والتفاوض بشأن الاتفاق النووي الإيراني.

من جهة، أدى سوء تقدير واشنطن للتحالف الأميركي-السعودي-الإسرائيلي إلى خلق معوّقات خاصة في ما يتعلق بالاعتراف السعودي بإسرائيل، وهي مشكلة ستحتاج إلى إعادة تقييم خاصة في ضوء الديناميكيات الإقليمية المُتغيّرة. ومن جهة أخرى، أسفر الصراع الدائر بين إسرائيل و”حماس” عن بعث القضية الفلسطينية من مرقدها الطويل لتقف حجر عثرة في مواجهة زخم التطبيع العربي-الاسرائيلي وتصبح سببًا في انقساماتٍ سياسية تُهدد بإعاقة العلاقات المستقبلية وتقويض استدامة جهود التطبيع، خصوصًا إذا استمرّ ضغط الرأي العام العربي على الحكومات. ورُغم أنَّ تأثيرَ الهجمات الإسرائيلية المستمرة على غزة على الاقتصاد السعودي قد لا يكون واضحًا الآن، إلّا أنَّ الأهداف الاقتصادية السعودية قد تتعرّض للخطر تدريجًا وهو ما قد يحد من مكانة المملكة البارزة كواحدة من أهم القادة الإقليميين.

ما يزيد الوضع صعوبة هو أنَّ العالم الإسلامي يقارن مدى اهتمام الرياض والتزامها بالحد من التصعيد في غزة مع موقف إيران التي تتصدر المشهد باعتبارها المدافع الأول عن القضية الفلسطينية وهو ما يضع المملكة في موقف دفاعي لا تحسد عليه. وفي ظل جميع هذه التعقيدات تحاول الرياض جاهدة، في الوقت الحالي، تحقيق توازن دقيق وصعب من خلال اختيار دعم حقوق الفلسطينيين على حساب مصالحها الاستراتيجية الأوسع التي قد يحققها التطبيع مع إسرائيل. ولكن إن قررت المملكة أن تحول سياستها الحالية استجابة للظروف المتغيرة، فإن ذلك سيعيد بشكل كبير تعريف التحالفات الإقليمية والأوضاع الاقتصادية.

لا يمكن إغفال أن التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل سيدعم طموحات المملكة الإقليمية ويعزز دور الأمير محمد بن سلمان كقائد للتغيير المرتقب، ينصب تركيزه على استراتيجيات ديبلوماسية واقتصادية طموحة تهدف إلى تخفيف الاعتماد المفرط على اقتصاد النفط في بيئة إقليمية لا يتوقع لها أن تستقر حاليًا.

والحقيقة هي أن اعتماد نسخة جديدة من الاتفاقات الإبراهيمية تضمن تمثيلًا مناسبًا للشعب الفلسطيني قد تنجح في تحقيق السلام الدائم المرجو والذي لا يمكن الوصول إليه بدون الطرف الفلسطيني. لذلك، وبحسب الظروف الجيوسياسية السائدة، فإن الجهود التعاونية وليست التكتيكات القسرية، هي الأساس الذي يمكن أن تبنى عليه تطلعات التواصل الإقليمي.

  • رباب خان هي محاضرة وباحثة مقيمة في باكستان متخصصة في العلاقات الدولية، تُركز على علم الاجتماع السياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى