إستقرارُ العراق الجديد على وَشكِ أن يُختَبَر

العامُ المقبل سيكون محوريًا بالنسبة إلى العراق، حيث سيتمُّ اختبارُ توطيد سلطة الإطار التنسيقي الشيعي من خلال عوامل عدة، بما فيها الانتخابات المقبلة، وعملية تشكيل الحكومة اللاحقة، والتغيير في الإدارة الأميركية في واشنطن.

زعماء الإطار التسيقي الشيعي: إلى أينَ يأخذون العراق؟

ريناد منصور*

في خضمِّ القتالِ الذي لا يزالُ يُسيطرُ على جُزءٍ كبيرٍ من الشرق الأوسط، بدا العراق -البلد الذي كانَ لعقودٍ في قلبِ الصراعات الإقليمية- مُستَقِرًّا نسبيًا. كان هذا الاستقرارُ الأخير مدفوعًا بتضافُرِ عَوامل في أعقاب الانتخابات الوطنية لعام 2021. من بين هذه العوامل ارتفاعُ أسعار النفط نسبيًا، الذي حافظَ على ثراءِ النُخَبِ السياسية ومَكَّنَ الحكومة من الوسائل المالية للإنفاق. علاوةً على ذلك، لعب تركيزُ السلطة في أيدي الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم، على حساب إقليم كردستان وجبهة التوافق السنّية المُوَحَّدة مؤقتًا تحت قيادة رئيس مجلس النواب السابق محمد الحلبوسي، دورًا مهمًا.

بالإضافة إلى تهميش القوى السياسية الكردية والسنّية، ضمن الإطار التنسيقي الشيعي أن المجتمع المدني العراقي لم يَعُد قادرًا على زعزعة استقراره، كما يتّضحُ من قمع انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 2019 وبقاياها. واستطاع أيضًا الحفاظ على إبعاد العراق وعزله نسبيًا عن الصراع الإقليمي في أعقاب هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

لكنَّ استقرارَ العراق لا يزالُ هشًّا. ومع الانتخابات المقبلة المُتَوَقعة في تشرين الأول (أكتوبر) 2025، سيواجه الإطار التنسيقي الشيعي وهيمنته على السلطة تحدّيًا كبيرًا، الأمر الذي سيَكشفُ ما إذا كان العراق على المسار نحو نظامٍ سياسي أكثر مركزية واستقرارًا أم أنه سيعود بدلًا من ذلك إلى دوراتِ التفتّت والصراع التي حددته على مدى العقود القليلة الماضية منذ الغزو الأميركي.

شبهُ استقرار

بفضلِ ارتفاع أسعار النفط، سعت حكومة رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني إلى تنفيذِ أجندةٍ طموحة لتطوير البنية الأساسية الحيوية، وتعزيز العلاقات مع الدول المجاورة، وإعادة التفاوض على العلاقات مع الشركاء الدوليين مثل الولايات المتحدة والأمم المتحدة. وتعجُّ بغداد والمدن الكبرى الأخرى بمشاريع البناء والبنية الأساسية الحيوية، بما في ذلك الجسور الجديدة ومترو بغداد الطموح.

والأمرُ الأكثر أهمّية بالنسبة إلى استقرار اليوم هو أنَّ النظام السياسي العراقي، الذي صمد أمام العديد من الصدمات في تاريخه الحديث، يعمل الآن على تعزيز السلطة وتركيزها في بغداد تحت مظلة الإطار التنسيقي الشيعي، الذي يضمُّ الأحزاب الإسلامية الشيعية الرائدة في العراق، بما فيها حزب الدعوة الإسلامية بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، فضلًا عن قادة من قوات الحشد الشعبي، مثل قيس الخزعلي وهادي العامري.

وكما ذكرنا، فقد عزّزت الحكومة المركزية خلال العام الماضي سلطتها على الكتل السياسية الكردية والسنّية المُجَزّأة. في الواقع، يعتمد الاستقرار الجديد الذي شهدته البلاد على مهارة الإطار التسيقي الشيعي في الآونة الأخيرة في التفوّق على منافسيه السياسيين، ولا سيما الحزب الديموقراطي الكردستاني، وكتلة السيادة السنّية، اللذين ضعفا بشكلٍ كبير.

حظيت هذه الجهود الرامية إلى مركزية السلطة بدعمٍ حاسمٍ من السلطة القضائية. فوفقًا لرئيس وزراء إقليم كردستان مسرور بارزاني، كانت حكومة إقليم كردستان ضحيةً لأحكامٍ قضائية غير عادلة ومُسَيَّسة بشأنِ تشريعاتِ تصدير النفط والغاز، فضلًا عن سوء الإدارة الاقتصادية على أيدي حكومة بغداد، التي فشلت في تمويل توقّعات موازنة حكومة إقليم كردستان. تَعكُسُ هذه القضايا العداء بين الإطار التنسيقي الشيعي والحزب الديموقراطي الكردستاني منذ أن انحاز الأخير إلى مقتدى الصدر في عملية تشكيل الحكومة التي أعقبت الانتخابات الوطنية لعام 2021. ومنذ ذلك الحين، فقدت حكومة إقليم كردستان استقلالها المالي، حيث أصبحت بغداد الآن مسؤولة عن دفع رواتب القطاع العام -وهو مصدرٌ رئيس للمحسوبية في أربيل- وهي على استعداد للسيطرة على أيِّ استئنافٍ مستقبلي لصادرات النفط والغاز من إقليم كردستان.

وبالمثل، عانى أهلُ السنّة أيضًا على أيدي حكومة الإطار التنسيقي الشيعي. وأخيرًا، في تشرين الأول (أكتوبر)، عيَّن الإطار التنسيقي رئيسًا جديدًا للبرلمان، محمود المشهداني، بعد شغورٍ دام قرابة عام منذ إقالة الحلبوسي من المنصب، والذي لعب فيه الإطار التنسيقي الشيعي دورًا محوريًا. كما تمت إقالة العديد من حلفاء الحلبوسي من السلطة في محافظة الأنبار مسقط رأسه –بمن فيهم المحافظ علي فرحان، الذي أُقيل في العام 2023 بسبب مزاعم فساد- فيما يراه الكثيرون جهدًا بدوافع سياسية من قبل الإطار التنسيقي الشيعي لتخفيف سلطة الحلبوسي في المحافظة. ونتيجةً للانقسامات الداخلية التي أعقبت الإطاحة بالحلبوسي، لم يتمكّن السنّة من تقديم جبهةٍ موحدَّة لتحدّي الإطار التنسيقي الشيعي.

لم يُتَرجَم الاستقرارُ السياسي في العراق بالضرورة إلى رضا شعبي واسع النطاق. ولمُعالجةِ خيبةِ الأمل ومَنعِ أيِّ حركةِ احتجاج شعبية من زعزعة استقرارها، استخدمت الحكومة مزيجًا من القمع -بمساعدة الجهات الأمنية الرسمية وغير الرسمية- فضلًا عن التدابير الإيديولوجية أو الدينية والحوافز الاقتصادية، وكلها كانت في العرض في الجهود المبذولة لقمع حركة تشرين الأول (أكتوبر) 2019. في الممارسة العملية، يعني هذا أنَّ حياة الناشطين السياسيين أصبحت محفوفة بالمخاطر بشكلٍ متزايد، حتى مع تبنّي الحكومة لاستراتيجيةٍ اقتصاديةٍ شعبوية، وزيادة رواتب الموظفين العامين لاسترضاء الشباب المتزايدين والساخطين. بالإضافة إلى ذلك، سعت الأحزاب الإسلامية الشيعية التي تشكل الائتلاف الحكومي إلى تلميع شرعيتها الدينية المتضائلة من خلال تنفيذ تدابير مثل حظر الكحول وحظر مصطلحات مثل “الجنس” من الخطاب العام. وتُحاول الحكومة حتى تعديل قانون الأحوال الشخصية، والذي قد يجعل الفتيات في سنِّ التاسعة مؤهّلات للزواج.

أخيرًا، أوضح الإطار التنسيقي الشيعي والولايات المتحدة وإيران أنَّ عدم الاستقرار الإقليمي بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) لا ينبغي أن يمتدَّ إلى العراق. وقد اقتصر دعم معظم قادة قوات الحشد الشعبي للفلسطينيين على التعبيرات الخطابية، مع الحفاظ على الحذر من عدم تعريض تعزيز سلطتهم في بغداد للخطر من خلال الانضمام إلى الصراع العابر للحدود الوطنية ودعوة الهجمات الإسرائيلية أو الحليفة. والاستثناء هو “كتائب حزب الله”، التي شنت في البداية هجمات ضد القواعد الأميركية وإلى إسرائيل من الأراضي العراقية، مما أثار ردًّا انتقاميًا من الولايات المتحدة، ولكن أيضًا إدانة من الإطار التنسيقي الشيعي وإيران. وتصاعد الموقف إلى حد أنه في أعقاب مقتل ثلاثة من أفراد الخدمة الأميركية على طول الحدود الأردنية-السورية في كانون الثاني (يناير) 2024، أجبرت إيران “كتائب حزب الله” على الموافقة على وقف إطلاق النار. ومنذ ذلك الحين، لم تعلن الجماعة عن أيِّ ضربات على القوات الأميركية، لكنها أعلنت عن ضربات ضد إسرائيل.

نتيجةً لهذا، وعلى الرُغم من الضغوط المتزايدة من إسرائيل لاستهداف حلفاء إيران داخل حدود العراق، أبقت واشنطن العراق معزولًا عن الصراع. ومن جانبها، إذا كانت إيران تهدف إلى إبقاء العراق بعيدًا من المعركة، فذلك لأنَّ بغداد تُشكّل شريان حياة اقتصاديًا حاسمًا ل”محور المقاومة”، الذي يواجه حالةً من الفوضى.

التحدّيات الأساسية

مع ذلك، لا يزالُ استقرارُ العراق محفوفًا بالمخاطر لأسبابٍ عدة، ليس أقلها اعتماد الحكومة على أسعار النفط المرتفعة لتمويل خططها الاقتصادية. علاوةً على ذلك، يواجه الإطار التنسيقي الشيعي وهيمنته على السلطة تحدّيًا كبيرًا في الانتخابات المقبلة التي ستجري في العام المقبل، والتي قد تُغيّرُ الوضع الراهن في بغداد. لقد استند الاستقرار السياسي الحالي في العراق إلى وحدة الإطار التسيقي الشيعي ضد التهديدات الخارجية، مثل الحزب الديموقراطي الكردستاني والسُنّة، ومركزية السلطة. لكن نهج الانتخابات حول تركيز الائتلاف إلى الداخل، حتى مع سلسلة من فضائح الفساد التي هزت أسس الإطار التنسيقي الشيعي، ما أدّى إلى تفتُّتٍ داخلي سيُختَبَرُ تماسكه في الفترة التي تسبق الانتخابات.

كما ستُمثّلُ هذه الانتخابات عودة التيار الصدري إلى البرلمان بزعامة مقتدى الصدر. سعى الزعيم الشيعي إلى قيادة ائتلاف إلى السلطة في العام 2021، لكنه انسحب لاحقًا من البرلمان احتجاجًا على المساومات التي أعقبت الانتخابات والتي سمحت لتحالف الإطار التسيقي الشيعي بتعزيز سلطته في بغداد. إنَّ لكُلٍ من التيار الصدري، الذي غالبًا ما يُعلِنُ عن مشاركته في الانتخابات متأخّرًا، والحزب الديموقراطي الكردستاني، آلاتٍ وأدواتٍ انتخابية هائلة، قادرة على تأمين الأصوات اللازمة لإعادة التفاوض على توازن القوى أثناء عملية تشكيل الحكومة.

علاوةً على ذلك، مع دخول ما يقرب من ثلث العراقيين تحت سن 15 عامًا إلى سوق العمل قريبًا، يجب على النظام أن يستعدَّ لتدفُّق الباحثين عن عمل. وفي حين سعت حكومة السوداني إلى توظيف أكبر عدد ممكن من الشباب، فإنَّ هذا التحدي الديموغرافي سيستمر، مما يُجهِدُ النظام السياسي الذي يكافح أصلًا لتلبية احتياجات السكان المتزايدين.

كما يُمكِنُ أن يتعرّضَ عزلُ البلاد عن الصراع الإقليمي للخطر إذا استمرّت “كتائب حزب الله” في إطلاق الصواريخ من الأراضي العراقية باتجاه إسرائيل أو استأنفت القيام بهجماتٍ ضد القوات الأميركية المتمركزة في العراق. وقد يؤدي ذلك إلى دعوة هجمات مستقبلية، خصوصًا مع وجود إدارة أكثر تشددًا تحت قيادة الرئيس المنتخب دونالد ترامب على استعداد لتولي السلطة في واشنطن. والجدير بالذكر أنَّ هناكَ مذكرة اعتقال بحق ترامب صدرت في العراق لدوره في اغتيال زعيم الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في عملية 2020 التي قتلت الجنرال الإيراني قاسم سليماني. وإذا استأنفت إدارة ترامب سياستها المتمثّلة في ممارسة أقصى قدر من الضغط على طهران وصياغة نهجها تجاه العراق من خلال سياستها تجاه إيران، فقد تعاني العلاقات بين بغداد وواشنطن وتسوء.

لهذه الأسباب كلها، فإنَّ العامَ المقبل سيكون محوريًا بالنسبة إلى العراق، حيث سيتمُّ اختبارُ توطيدِ سلطة الإطار التنسيقي الشيعي ــبدعمٍ من القضاءــ من خلال عوامل عدة، بما فيها الانتخابات المقبلة، وعملية تشكيل الحكومة اللاحقة، والتغيير في الإدارة الأميركية في واشنطن. وسوف تكشف الكيفية التي يتعامل بها الإطار التنسيقي الشيعي مع هذه التحديات ما إذا كان العراق سوف يرسم مسارًا جديدًا أو يعود إلى التفتُّت ودورات الصراع.

  • ريناد منصور هو زميل باحث أول في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الأبحاث البريطاني “تشاتام هاوس”، وهو مدير مشروع مبادرة العراق في المؤسسة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى