إيران تَفقُدُ حدودَها مع إسرائيل

محمّد قوّاص*

تتقدّمُ، إثر الحرب التي تشنّها إسرائيل برًّا وبحرًا وجوًّا ضدّ لبنان، أعراضُ فقدانِ إيران إطلالتها على إسرائيل من حدود لبنان جنوبًا وعلى البحر الأبيض المتوسط من شواطئ لبنان غربًا. وإذا ما صحّت المسودّات المُتداوَلة لاتفاقٍ مُحتَمَلٍ لوقفِ إطلاقِ النار في لبنان، والتي تَشمُلُ التزامًا مشدّدًا بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، مُدَعَّمًا بآلياتِ مراقبة دولية، ونشرًا جدّيًا للجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني، فإنَّ نتائجَ ذلك تعني أنَّ إيران خسرت حدودًا افتراضية مع إسرائيل، عملت على “حفرها”، بالدم والسلاح والمال والعقيدة والحجَج القانونية والدستورية، لتكون طهران حاضرةً حول طاولةٍ لم يكن لها يومًا مقعدٌ حولها طوالَ عقودِ الصراع العربي-الإسرائيلي.
تُراقِبُ إيران بقلقٍ تَداعي خرائط إمبراطوريتها العتيدة. ما زالت تمتلكُ إطلالةً وازنةً على البحر الأحمر، من خلال ميليشيا جماعة الحوثي، ونفوذًا داخل خرائط التوازُنات الداخلية في العراق. غير أنها تستنتجُ بهلعٍ تدفُّقَ ضغوطٍ تُفقِدُها حدودها الأخرى مع إسرائيل من جنوب سوريا، وتُفقِدُها ترفَ الصراع مع إسرائيل من خلال الآخرين. باتت حربهما مباشرة قاسية، تُهدّدُ برنامجَيها النووي والصاروخي، وبُناها التحتية الاقتصادية، ومُرَشَّحة لتجاوزِ خطوطٍ حُمرٍ بقيت واشنطن تضبطها نسبيًا قبل ذلك.
قد يَستعيدُ لبنان حدوده الجنوبية من دون احتفالِ تَسَلُّمٍ وتسليم من إيران. احتكرت طهران، من خلال حزبها هذا الامتياز منذ انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من أراضٍ بدأ باحتلالها منذ “عملية الليطاني” في العام 1978. تُوحي تحوّلات الالتزام بالقرار الأممي رقم 1701، وحصرية وجود الجيش اللبناني، بالتعاون مع القوات الأممية، في جنوب البلد، بانتهاءِ عصر. ستتعلّم بيروت من جديد مهنة إدارة تلك الحدود، وحمايتها بأدواتٍ لبنانية، في الدفاع والأمن والديبلوماسية. وسيتعلّم أهل الجنوب ثقافةَ عودة مناطقهم إلى دولتهم، والتعامل مع أجهزتها ومؤسّساتها وإداراتها بشكلٍ حصري، بعدما كانت خاضعةً لمزاج قوى الأمر الواقع منذ “فتح لاند” قبل أكثر من أربعةِ عقود.
كانَ لبنان على موعدٍ مع جنوبه في العام 2000. اعتبرَ اللبنانيون أنَّ التحرير، الذي أصبح عيدًا يحتفلون به كل عام، يُخرِجُ المُحَتلَّ ويُعيدُ السيادة إلى البلد. مَثّلَ هذا الموعد انتهاءً لصراعٍ دفع ثمنه لبنان وجنوبه غاليًا من بشرٍ وحجر. أدركت طهران وحزبها وحليفهما في دمشق هذه الحقيقة-المأزق، واستنتجوا أنَّ نهايةَ الصراع في جنوب لبنان، يُفقدهم جميعًا منافذ تجارة وابتزاز وشرعية وجود، استنتجها اللبنانيون لاحقًا. كان واضحًا أنَّ الجنوب ممنوعٌ من العودة إلى لبنانه. أوّلًا: لأَّن “حزب الله” يرفضُ نشرَ الجيش هناك، “خوفا على سلامته”، وفق ما كان يُردّد الأمين العام الراحل للحزب، السيّد حسن نصر الله. وثانيًا: لأنَّ الأرضَ لم تتحرّر إثر “اكتشاف” مزارع شبعا وغيرها أراض لبنانية ما زال يحتلّها المحتل.
امتلكَ الأمرُ الواقع عدّة شغلٍ كاملة لإدامة الصراع، وتشريع هيمنة الحزب من خلال ديباجة “الثلاثية الذهبية”. وحتى حين فرضت حرب العام 2006 القرار 1701 لنشر الجيش اللبناني في الجنوب وصدّقَ البعضُ هذه الحقيقة، تمّ ارتكابُ “خَطَإِ” إسقاطِ الحزب، في آب (أغسطس) 2008، لمروحيةٍ للجيش اللبناني وقتل قائدها النقيب سامر حنّا. وصف الحزب حينها الحادث بأنه “مؤسفٌ ومؤلم جدًا”، وفهم لبنان رسالة مفادها أنَّ أمرَ المنطقة خاضعٌ لواقع أنها حدودٌ إيرانية لها شروطها وقوانينها وأصولها ولا تتساهل مع رموزٍ سيادية منافسة.
ليس مهمًّا أنَّ طهران وحزبها ودمشق لم يتقنوا حبك حكاية “المَزَارع”. بقيت هذه المنطقة سورية لم تعترف دمشق بلبنانيتها. لكن حتى لو كانت كذلك، فاسترجاعها المفترض لا يحتاح إلى كل الكوارث التي عرفها البلد وصولًا إلى المأساة التي يعيشها هذه الأيام. ما بين اليابان وروسيا نزاعٌ مُزمن متعلّق بجزر الكوريل التي تُطالب طوكيو موسكو باسترجاع ما تعتبره جُزءًا من السيادة اليابانية. ورُغم أن مساحة هذه الجزر تفوق مساحة لبنان بأكمله، فإنَّ الأمرَ لا يحتاج إلى عسكرة وصدام و “صراع حضارات”.
قد يكون صعبًا على البعض مغادرة إيران حدود بلادنا الجنوبية. كان أيضًا صعبًا على البعض التعايُش مع مغادرة القوات السورية لبنان في العام 2005. غير أنَّ مراحل التاريخ تفرض وقائع جديدة وموازين قوى مُستَحدَثة بدأت إيران تفرج سريعًا عن أعراضِ إدراكها والعمل وفقها. تخسر إيران إطلالتها على الصراع مع إسرائيل. تخسر خطوط التماس وتلتحق بكلِّ سرور بما تُصدره القمّة العربية الإسلامية الأخيرة في الرياض من مواقف تستعيد “القضية” وتنهي وكالة طهران الحصرية لتحرير القدس عبر مصادرة التاريخ والسطو على جغرافيا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى