عَلَّقَتْ في صدرها مفتاحها
هنري زغيب*
هزَّني حتى الدمع تقريرٌ تلفزيونيٌّ هذا الأُسبوع مع سيِّدةٍ عجوزٍ، مستَضَافةٍ في أَحد المراكز، روَتْ وهي تَجهشُ بالغُصَّةِ الـمُرة كيف هربَت من ضيعتها دِبْل قبل أَيام مع زوجها العجوز وولدِها الشاب، ووضعَت في عُبِّها مفتاح البيت قبل أَن تغادرَه مذعورةً. وإِذ قال لها ابنُها: “هاتي المفتاح أَحفظْه معي في محفظتي” بادرتْه وهي تركض لاهثةً: “أَبدًا. هذا المفتاح لن يغادرَ صدري حتى أَعودَ إِلى البيت”… لا يَهُمُّ في أَيِّ مركزٍ هذه السيِّدة العجوزُ استقرَّت. ما يَهُمُّ: جوابُها الحاسمُ الْيَدلُّ على غُربةٍ قاصمةٍ تخنُقُها بعيدةً عن بيتها الذي هجَّرتها منه قسْرًا ضرباتُ العدوِّ الوحش. كان حدَّها زوجُها فسأَلتْه المذيعة عما أَصاب بيتَه فأَجاب بثقة: “قالوا لي إِنه تهدَّم للمرة الثالثة بعدما ضُرب مرتين في السنوات الماضية. لكني سأَعود وأَبنيه من جديد. لن أَموت بعيدًا عن بيتي”. هذا نموذجٌ ساطعٌ عن شعبنا العنيد في تَشَبُّثِه بأَرضه وضيعته وبلاده.
قلتُ في بدْء كلامي إِن تلك السيدة “مستضافةٌ” في مركز. لم أَقُل “نازحة” أَو “مُهَجَّرة”، ولم أَقل مركز “إِيواء” بل “استضافة”. النازحُ ينتقلُ من بلد إِلى آخر، وكذلك المهَجَّر. أَمَّا المواطنون الذين في الوطن الواحد ينتقلون قسْرًا من بيتهم وقريتهم ومدينتهم فهُم ضيوفٌ عند إِخوانهم المواطنين. وهو هذا ما يحصل يوميًّا في هذه الأَيام المالحة الكالحة. ويَثبُتُ أَنَّ اللبنانيين ضيوفٌ عند بعضِهم بعضًا في الوطن الواحد، في هذا اللبنان الأُعجوبي الذي كلَّما كاد يَهوي يلتقطُه شعبُه فينهضُ به من جديد، مثلَما يمتلئُ تاريخُه العنيد منذ عُقُود وعُصُور وقُرُون.
هذا يدل على أَنَّ العدوَّ الوحش سيفشل في تقطيع أَوصال لبنان. فهذه الحرب أَلْغَت من التداوُل كلمة “مِنطَقَتنا” و”مِنطَقَتهم”، وتَحوَّلَ لبنانُ منطقةً واحدة، لهفةً واحدة، عطفةً واحدة، وها شعبُ لبنانَ واحدٌ موحَّدٌ شعبيًّا بالمواطَنة تَمَاسُكًا وتَضَامنًا، بعدما كان “بيت بو سياسة” فَرَّقوه أَحزابًا وجماعاتٍ ومذاهبَ وطوائفَ واصطفافات. فليتجَدَّدْ إِيمانُنا بشعبِنا الذي، قبلَما عانى من هذه الحرب عانى من دولته التي جعلَت الشعبَ في خدمتها عوضَ أَن تكون هي في خدمة الشعب. هذه الوحدةُ بالمواطَنة في زمن الحرب، فلتبْقَ في الذاكرة بعد انحسار الحرب وانقشاع الغبار عن الدمار، وبدْء العودة إِلى العمار حيثُما يمكن العمار.
صحيح أَن الدولة طرَحَت الصوت على الدوَل فاستجابَت مساعداتٍ عينيةً وطائراتٍ متتاليةً دولٌ صديقةٌ، عربيةٌ وغربية، وتضامنَت معنويًا دولٌ فأَضاءَت الإِمارات برج خليفة بأَلوان العلَم اللبناني وكتبَت عليه بالأَنوار عبارة “الإِمارات معك يا لبنان” وتناولت الخبر وكالات عالمية ناشرةً إِياه في كل الدنيا، وأَرسلت قطَر والمملكة العربية السعودية والمملكة الأُردنية الهاشمية طائراتٍ بأَطنان المساعدات العينية، وتحركَّتْ دول أُخرى دبلوماسيًّا في عواصم القرار، لكنَّ كلَّ هذا لشعب لبنان الذي دولتُهُ لم تعرف أَنَّ الحُكْم ليس بالاستلحاق بل بالاستباق، أَي لا أَن تستلحقَ بالاستغاثة حين تقع الكارثة بل أَن تستبقَ الكارثة ولا تدع اقتصادَ البلاد ينهار فيتعرَّى الشعب من أَيِّ مقاومةٍ معيشيةٍ للبقاء…
الدولةُ هيئةٌ معنويةٌ تديرها سُلطةٌ ماديةٌ تَتَشَكَّل من سياسيين مسؤُولين. فليتَّعظْ شعبُنا في الانتخابات المقبلة ولْيَطْرُدْ فاسدي السلطة الحاليين من صندوقة الاقتراع، لأَن من هدَّموا كيانَ الدولة وأَفْلَسوها ليسوا هُم مَن سيُعيدونَ للدولة قوة الكيان. وإِذا شعبُنا كُلُّهُ يصرخ اليوم أَنه لا يريد هذه الحرب الـمَـفروضة عليه، فليصرخْ كلُّهُ غدًا أَنه لا يريد أَحدًا من بيت بو سياسة الْمَفروضين عليه، فليرفُضْهم وليطْرُدهم من فكره ومن صندوق الاقتراع. عندها تَتَكَوَّن لدينا سلطةٌ صالحةٌ تديرُ دولةً صالحة، وعندها تَسْحَبُ كلُّ سيِّدةٍ مفتاحَها من صدرها وتعودُ إِلى بيتها مطمئِنَّةً إِلى أَنها في دولةٍ هي التي تَحميها، وهي التي تُقّرِر مصيرها، وهي التي وتُعيد لبنان إِلى سُطُوعه الرائع على كل هذا الشرق.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib