عالمٌ خالٍ من الأسلحة النووية هو طموحٌ أكثر من كونه واقعيًا
بول بوست*
في الأسبوع الفائت، مُنِحَت جائزةُ نوبل للسلام إلى الاتحاد الياباني لمنظمات ضحايا القنبلة الذرية والهيدروجينية، والمعروف باسمه الياباني المُختَصر “نيهون هيدانكيو” (Nihon Hidankyo). يُمثّلُ الاتحاد الناجين من القصف الذري الذي شنّته الولايات المتحدة على هيروشيما وناكازاكي خلال الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن الأشخاص المُتضرّرين من تجارب الأسلحة النووية في حقبة الحرب الباردة في المحيط الهادئ. وكما يوحي اسمها، فقد تم الاعتراف بالمجموعة “لجهودها الرامية إلى تحقيقِ عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية وإثباتها من خلال شهادات الشهود أنَّ الأسلحة النووية يجب ألّا تُستَخدَم مرّةً أخرى”.
لا شكَّ أنَّ “نيهون هيدانكيو” تستحقُّ جائزةَ نوبل للسلام، وخصوصًا في عالمٍ يبدو خطرُ استخدامِ الأسلحة النووية أكثر احتمالًا بشكلٍ مستمر. لقد كتبتُ في السابق عن الانتقادات التي وُجِّهَت إلى الجائزة بشكلٍ متكرر، والتي تشمل أفرادًا غير مؤهَّلين مُنِحوا الجائزة في بعض الأحيان واستخدام اللجنة للجائزة للإدلاءِ ببيانٍ سياسي بدلًا من تكريم أولئك الذين يُعزّزون جهودَ السلام. لكن يبدو أنَّ الحائز على الجائزة هذا العام يُناسِبُ الغرضَ الحقيقي للجائزة، والذي يتلخّص وفقًا لوَصِيّة ألفريد نوبل في تكريم الفرد أو المجموعة “التي قامت بأكبرِ قدرٍ أو أفضلِ عملٍ من أجلِ الإخاء بين الأمم، وإلغاء أو تقليص الجيوش النظامية، وعقد مؤتمرات السلام وتعزيزها”.
منذُ إكتشاف القنابل النووية الأولى، كان كثيرون يأملون ويدعون إلى الحّدِّ من انتشارها وحتى القضاء عليها تمامًا. والواقع أن لجنة جائزة نوبل اعترفت في كثيرٍ من الأحيان بمجموعاتٍ تُركّزُ على نزع السلاح النووي، مثل “الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية” (ICAN) في العام 2017، والوكالة الدولية للطاقة الذرية في العام 2005، و”مؤتمر باجواش للعلوم والشؤون العالمية” في العام 1995، والأطباء الدوليون لمنع الحرب النووية في العام 1985. كما ذهبت الجائزة إلى أفرادٍ ركّزوا على نزعِ السلاح النووي، مثل لينوس بولينغ في العام 1962 وألفا ميردال وألفونسو غارسيا روبليس في العام 1982. وعندما مُنِحَ الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما الجائزة بشكلٍ مُفاجئ في العام 2009، كان ذلك إلى حدٍّ كبير بسبب رؤيته لعالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية.
وبالمصادفة، كان من بين أوائل الأفراد الذين دَعوا إلى السيطرة على الأسلحة النووية والقضاء عليها حائزون على جائزة نوبل، ولكن في مجال العلوم. وعلى وجه التحديد، في حزيران (يونيو) 1945، قبل شهرين من قصف هيروشيما وناكازاكي، أصدرت مجموعةٌ من العلماء المُقيمين في شيكاغو والذين يعملون في مشروع “مانهاتن” (مشروع بحث وتطوير لإنتاج أسلحة نووية لأول مرة) مذكّرةً حول “المشاكل السياسية والاجتماعية” المُرتَبطة بالاستخدام النهائي للقنابل، وخصوصًا بداية سباق التسلح. وقد عُرِفَت المذكرة باسم “تقرير فرانك”، نسبة إلى جيمس فرانك، الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل والذي ترأس اللجنة التي أنتجت الوثيقة. وضمت تلك اللجنة أيضًا الكيميائي يوجين رابينوفيتش، الذي أسس نشرة العلماء الذريين في شيكاغو في العام 1945، والفيزيائي ليو سزيلارد والكيميائي غلين سيبورغ، الذي فاز أيضًا بجائزة نوبل. وأُرسِلَ التقرير إلى مستشار وزير الحرب الأميركي آنذاك هنري ستيمسون مع خطابٍ تقديمي كتبه الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء آرثر كومبتون، الذي أدار فريق شيكاغو لمشروع “مانهاتن”.
علاوةً على ذلك، كان من بين أولئك الذين دعوا إلى السيطرة على القنبلة الذرية والقضاء عليها أبرز الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء، وربما أشهر الفيزيائيين على الإطلاق، ألبرت أينشتاين. ورُغم أنه لم يكن عضوًا في مشروع “مانهاتن”، فقد شعر أينشتاين بمسؤوليةٍ خاصة عن تطوير القنبلة، نظرًا لأنَّ الرسالة التي وقّعها وأرسلها إلى الرئيس الأميركي آنذاك فرانكلين روزفلت في العام 1939 ساعدت على بدء مشروع “مانهاتن”.
وقد كُتِبَت عن هذه الجهود، التي بذلها علماءٌ أميركيون في الغالب لتشكيل السياسة النووية الأميركية وتحقيق السيطرة على الأسلحة، دراساتٌ أكاديمية وكتب، وتم تصويرها في أفلام هوليوود. وقد ساعدت هذه الجهود مجتمعةً على تمهيدِ الطريق لمُناصري نزع السلاح النووي اليوم، مثل الحائزين على جائزة نوبل للسلام هذا العام. باختصار، كان تاريخ جوائز نوبل بشكلٍ عام، وليس فقط جائزة السلام، مُرتبطًا منذ فترةٍ طويلة بتاريخ الأسلحة النووية. ولعلَّ هذا مُناسبٌ بشكلٍ مُثيرٍ للسخرية، نظرًا لأنَّ ألفريد نوبل نفسه كسب شهرته وثروته من اختراع الديناميت.
إنَّ كلَّ هذا نبيلٌ ويستحقُّ جائزة نوبل. لكنه يثير سؤالًا أكثر جوهرية: هل يتخلّص العالم من الأسلحة النووية يومًا ما؟ من المؤسف أن الإجابة المحتملة هي لا. من ناحية، توصّلت الدول في بعض الأحيان إلى اتفاقاتٍ للسيطرة والحد من إنتاج الأسلحة النووية ونشرها. فضلًا عن ذلك فإنَّ تحقيقَ عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية يُشكّلُ في واقع الأمر هدفًا مُعلنًا للسياسة الخارجية الأميركية. وهو السبب الرئيس وراء دعم واشنطن منذ فترةٍ طويلة للجهود الرامية إلى منع الانتشار العالمي للأسلحة النووية، على سبيل المثال، من خلال رعاية إنشاء معاهدة منع الانتشار النووي في العام 1968.
من ناحيةٍ أخرى، ورُغمَ هذه الجهود، لا تزال هناك آلاف من هذه الرؤوس الحربية قائمة. ومن غير المرجح أن يتغّيرَ هذا الواقع. ولكي نفهم السبب، فلنتأمّل عالمًا افتراضيًا حيث تُوافِقُ الدول المسلحة نوويًا بالفعل على التخلّي عن ترساناتها النووية. في مثل هذا السيناريو، فإنَّ الدولةَ التي أخفت ترسانةً صغيرة بينما نزعت الدول الأخرى أسلحتها، أو التي تمكّنت من إعادة بناء أسلحتها سرًّا، سوف تتمتّع بمزايا قسرية هائلة. وكما كتب الخبير الاستراتيجي النووي هيرمان كان في ستينيات القرن العشرين، فإنَّ “مشكلة المخبأ النووي السري في حدِّ ذاته تجعل نزع السلاح الكامل غير مُمكن بشكلٍ خاص”. وحتى لو لم يتم الاحتفاظ بمخابئ صغيرة من الأسلحة، فإنَّ المعرفة بكيفية بناء مثل هذه الأسلحة سوف تظلّ موجودة. بعبارةٍ أخرى، تم فتح صندوق “باندورا”، ولا يمكن إغلاقه. لذا حتى لو لم يمتلك أحدٌ القنبلة، فإنها ستظلُّ دائمًا في متناول شخصٍ ما.
الواقع أنَّ الأسلحة النووية لا تزال قائمة للسبب عينه الذي يجعل الإكراه العنيف قائمًا على نطاقٍ أوسع في النظام الدولي، وفقًا لعالم الاجتماع السياسي تشارلز تيلي: إنه ينجح. لكن ليس في كلِّ الأوقات وليس في كلِّ الحالات. إلّا أنَّ القدرة على إلحاق الأذى والمعاناة، أو على الأقل التهديد بذلك، تُترجَم إلى قوةٍ هائلة. وفي نظامٍ عالمي مُنظَّم حول استقلال الدول ذات السيادة المختلفة، فإن بعض هذه الدول سوف يظل دائمًا حذرًا من أيِّ تغييرٍ غير مواتٍ في الوضع الراهن على أيدي دولةٍ أخرى تسعى إلى تحقيق ميزة لنفسها.
وكما كتبت مُنظّرة العلاقات الدولية ميرز تيت في دراستها “وهم نزع السلاح” في العام 1942، “قد لا ترغب القوى غير الراضية في الحرب في الواقع، بل قد تخشى ذلك، وقد تكون غير راغبة في المخاطرة باللجوء إلى السلاح مثل الدول الراضية؛ ولكن على الرغم من هذا، فإنها لن تغلق طواعية كل احتمالات الحصول على حالة من الأشياء تكون مقبولة بالنسبة إليها أكثر من الوضع الحالي”. ورُغم أن فكرة استخدام الأسلحة النووية قد تكون مُستهجنة بالنسبة إلى كثيرين، فإنَّ الدول تواصل وضع الخطط والعقائد للقيام بذلك، حتى باعتبارها ضربة أولى.
من الجدير التأكيد على أنَّ كلَّ هذا لا يهدف إلى التقليل من شأن الحائزين على جائزة نوبل للسلام هذا العام. ويظل من الأهمية بمكان تذكير العالم، وخصوصًا صنّاع السياسات، بالأهوال المرتبطة باستخدام الأسلحة النووية. وفي حين أنَّ الحواجز التي تحول دون استخدامها قد لا ترتفع إلى مستوى المحرّمات -مما يعني أننا لا نستطيع حتى النظر في سيناريوهات الاستخدام الأول- فإنَّ الواقع هو أنَّ الأسلحة النووية لم تُستخدَم في الحرب منذ ما يقرب من 80 عامًا، وقد امتنعت معظم الدول المسلحة نوويًا عن اختبارها بانتظام. من غير المرجح أن يكون هناك عالمٌ خالٍ من الأسلحة النووية، لكن العالم الخالي من الاستخدامِ النووي يظل ممكنًا. وجائزة نوبل للسلام لهذا العام هي إحدى الطرق لزيادة احتمالات هذا الأخير.
- بول بوست هو أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاغو وزميل غير مقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.