لماذا هُمِّشَ دورُ أوروبا في الشرق الأوسط؟

كابي طبراني*

مُنذُ بدايةِ الحملةِ العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني في جميع أنحاء لبنان وسوريا، بدا شُركاءُ إسرائيل وخصومُها مُندَهِشين ومُثقَلين وقلقين من وتيرةِ الأحداث. من الضرباتِ الجوية الأوّلية ضدّ كبارِ مسؤولي “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني في أواخر تموز (يوليو)، إلى تفجير أجهزة النداء والاتصال المُفَخَّخة التي قتلت وشوّهت الآلاف من أعضاء وعُملاء “حزب الله” في منتصف أيلول (سبتمبر)، إلى اغتيال السيد حسن نصرالله، أظهرت كلُّ خطوةٍ اتخذتها إسرائيل مدى قِدَمِ العديد من الافتراضات التي كانت تُوَجِّهُ الديبلوماسية الدولية في الشرق الأوسط.

الآن، مع بدءِ غزوٍ إسرائيلي للبنان وصراعٍ مباشر بين إسرائيل وإيران، أصبح عجزُ الاتحاد الأوروبي عن التأثير في التطوّرات على طولِ محيطه في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​رمزًا صارخًا بشكلٍ خاص لشعورٍ دوليٍّ أوسع بالعجز في مواجهةِ حربٍ تخرجُ عن نطاقِ السيطرة.

إنَّ مدى تحوُّل مؤسّسات الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء والمملكة المتحدة إلى مُتفرِّجين عاجزين في مواجهةِ الصراعِ المُتصاعِد يتناقضُ بشكلٍ صارخٍ مع الطموحات التي كانت لدى الأوروبيين في السابق في أن يُصبحوا لاعبين مركزيين في خلقِ “شرقِ أوسطٍ” جديدٍ سلميٍّ ومُزدَهر. فبدءًا من أوائل التسعينيات الفائتة، وعلى الرُغمِ من أنَّ الولايات المتحدة ظلّت أقوى جهة عسكرية وأمنية في المنطقة، فإنَّ المبادرات الأوروبية لتعزيزِ التجارةِ الإقليميةِ والتنميةِ الاقتصادية ورَبطِ البنية التحتية أصبحت جوانبَ حاسمة لكلِّ جُهدٍ للتوسُّطِ في سلامٍ دائمٍ في الشرق الأوسط. منذ ذلك الحين، ظلَّ الاتحاد الأوروبي مَصدَرًا ثابتًا لكمّياتٍ هائلةٍ من مساعداتِ إعادةِ الإعمارِ والاستثمارِ التجاري في جميع أنحاء المنطقة، حتى مع انتهاءِ كلِّ مُبادرةٍ جديدةٍ رفيعةِ المستوى مُصَمَّمة لتعزيز الاستقرار الإقليمي بكارثة.

سواءَ كانَ ذلك لتعزيزِ المُصالحة وتسوية الخلافات من خلال النموِّ الاقتصادي كجُزءٍ من اتفاقيات أوسلو للسلام في العام 1993 بين إسرائيل والفلسطينيين، أو في التعاونِ الأحدث مع الإمارات العربية المتحدة ودول الخليج الأخرى لتعزيزِ التكامل الاقتصادي الإقليمي، كانت الدولُ والمؤسسات الأوروبية في قلب التجارة والديبلوماسية في الشرق الأوسط. في حين تُساعِدُ مشاريعُ النفط والغاز على تحديدِ الروابطِ التجارية الوثيقة بين الدول الإقليمية والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، فإنَّ التدفُّقَ المُستَمِر للسلَعِ المُصَنَّعة الأوروبية الراقية والاستثمارات وعقود الأسلحة إلى المنطقة من شأنه من الناحية النظرية أن يُوَفِّرَ للاتحاد الأوروبي تأثيرًا كبيرًا لمُمارسة النفوذ على المسار الاستراتيجي للشرق الأوسط.

بالنسبة إلى إسرائيل، أصبح الوصول إلى السوق الأوروبية المُوَحَّدة من خلال اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي دخلت حَيِّزَ التنفيذ في العام 2000 أمرًا بالغ الأهمية لتأمينِ النموِّ الاقتصادي الذي تشتدُّ الحاجة إليه. ومع توجيهِ معظم صادرات إسرائيل من السياحة والزراعة والتصنيع نحو دول الاتحاد الأوروبي والبنوك الإسرائيلية وتشابكها مع قطاع الخدمات المالية الأوروبية، فإنَّ الكثير مما أصبح الآن اقتصادًا إسرائيليًا هشًا للغاية يعتمد على علاقاتٍ تجارية جيدة مع أوروبا. وعلى الرُغمِ من أنَّ قطاعَ التكنولوجيا الناجح للغاية في إسرائيل هو لاعبٌ رئيس في الأسواق الأميركية والآسيوية، فإنَّ الكثيرَ من نموّه يعتمدُ على وجودٍ قوي في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة.

كانت هذه المحاولات الأوروبية لاستخدامِ الثقلِ الاقتصادي للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة للمساعدة على تحقيقِ نظامٍ جيوسياسي أكثر استقرارًا في الشرق الأوسط مَدفوعةً بالمصلحة الذاتية الاستراتيجية بقدرِ ما كانت مدفوعةً بأيِّ شعورٍ بالإنسانية المُستَنيرة. ومن خلالِ حدودها البحرية المشتركة مع الاتحاد الأوروبي، تتشابك مسارات لبنان وإسرائيل وسوريا بشكلٍ عميق مع مسارات الدول الأوروبية على طول البحر الأبيض المتوسط، كما كانت الحال لقرون وحتى آلاف السنين. كُلّما اندلعت صراعاتٌ في المنطقة، فإنَّ آثارَها تشعرُ بها على الفور اليونان وقبرص وألبانيا وإيطاليا وتركيا، التي يتشابك اقتصادها مع اقتصاد الاتحاد الأوروبي مثلما يتشابك اقتصادها مع اقتصاد إسرائيل.

إنَّ مدى اعتمادِ العديد من دول الاتحاد الأوروبي على واردات النفط والغاز من ليبيا ودول الخليج يعني أنَّ تصعيدَ الصراع بين إسرائيل وإيران له أيضًا آثارٌ مباشرة على أمن الطاقة الأوروبي. وفي الآونة الأخيرة، أدّى التورُّطُ المُكثَّف لشركات الطاقة الأوروبية في مشاريع تطوير حقول الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​في المياه الإقليمية الإسرائيلية واللبنانية إلى زيادةِ تعرُّضِ أسواق الطاقة الأوروبية للتطوّرات الجيوسياسية في مصر وإسرائيل ولبنان. إنَّ موجاتَ الهجرة المتكررة إلى أوروبا منذ سبعينيات القرن العشرين والتي كانت مدفوعةً بعَدمِ الاستقرارِ الإقليمي عزَّزت مَيلَ الاتحاد الأوروبي إلى النظرِ إلى التنمية الاقتصادية باعتبارها الأساس المركزي لأيِّ جُهدٍ أوسع نطاقًا لتحقيق السلام الدائم في المنطقة.

مع ذلك، عندما واجهَ الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة الانزلاق إلى الحرب بين إسرائيل وخصومها منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فشلا في ترجمةِ هذه العلاقات الاقتصادية العميقة مع إسرائيل والدول العربية وإيران إلى نفوذٍ يُمكنُ أن يُغيِّرَ ديناميكيات الصراع على الأرض. في حين أصبحت إدارةُ الرئيس الأميركي جو بايدن غارقةً في فشلٍ ديبلوماسي، وغيرَ راغبةٍ في الضغط على إسرائيل وغير قادرة على التأثير في النظام في إيران، لم يكن لدى الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء القدرة ولا الإرادة للقيام بدورٍ أكثر فعالية في جهود الوساطة الأوسع. وعلى الرُغمِ من التصعيدِ الوشيكِ إلى حربٍ أوسع نطاقًا يُمكنُ أن تؤدّي إلى اضطرابٍ في أسواقِ الطاقة ونزوحٍ جماعي للاجئين نحو أوروبا، لم يتمكّن أيُّ زعيمٍ من الاتحاد الأوروبي أو المملكة المتحدة من تحويلِ النطاقِ الهائل من العلاقات الاقتصادية والثقافية بين أوروبا والشرق الأوسط إلى نوعٍ من النفوذ الذي من شأنه أن يُجبرَ إسرائيل وإيران و”حزب الله” على وقفِ إطلاقِ النار تتبعهُ عمليةُ خفضِ تصعيدٍ قابلةٍ للتطبيق.

إنَّ عدمَ قُدرةِ الأوروبيين على مُمارسةِ أيِّ نوعٍ من التأثيرِ الفعّال في مجرى الأحداث في الشرق الأوسط يرجعُ في المقامِ الأوّل إلى الانقسامات الداخلية العميقة داخل مؤسّسات الاتحاد الأوروبي وبين الدول الأعضاء حول أسباب وعواقب الصراعِ المُتصاعد. وكانت زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التضامُنية إلى إسرائيل بعد أيامٍ قليلة من هجمات “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) بمثابةِ إشارةٍ إلى أنَّ اليمينَ الوسط الأوروبي وأجزاءً من اليسار الوسط، اللذين لا يزالان شديدَي الحساسية لإرث “الهولوكوست”، سوف يُحافظان على دَعمِ أوروبا التقليدي لإسرائيل كدولةٍ يهودية، حتى مع إطلاق إسرائيل العنان لإبادةٍ جماعيةٍ ومُعاناةٍ إنسانيةٍ هائلة في غزة. مع ذلك فإنَّ القرارَ الذي اتخذته الحكومات في إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في سياق الحرب في غزة أظهرَ كيفَ أنَّ الخلافاتَ الجوهرية بين الشركاءِ الأوروبيين جعلت من المستحيل تقريبًا على الاتحاد الأوروبي مُمارسة ضغوطٍ جماعية على قيادة إسرائيل.

لكن حتى لو تمكّنت المؤسّسات الأوروبية من التغلّبِ على الانقسامات الداخلية حولَ كيفيةِ التعامُلِ مع إسرائيل والفلسطينيين، فإنَّ العواملَ البُنيوية الأعمق سوف تُعوِّقُ قدرةَ الاتحاد الأوروبي على مُمارسةِ نفوذٍ حاسمٍ في المنطقة. ومهما كانت أهمية التجارة والاستثمار من جانب أوروبا بالنسبة إلى اقتصادات الدول في الشرق الأوسط، فإنَّ حدودَ استعداد الاتحاد الأوروبي للانفتاحِ بشكلٍ أكبر على المنطقة من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية قد قلّلت من تأثيرِ عملياتِ التكامُلِ التي عملت بروكسل من خلالها على تشكيلِ مسارِ مناطق أخرى على أطراف الاتحاد الأوروبي.

على الرُغمِ من سلسلةِ المبادرات التي أطلقها “الاتحاد من أجل المتوسط”، الذي يضمُّ  دول الاتحاد الأوروبي و15 دولة من الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط، في العقدِ الأول من القرن الحادي والعشرين، والجهود الأكثر حداثةً لإحياء شراكة الجوار الجنوبي، فقد أظهرَ الاتحادُ الأوروبي تَرَدُّدًا في تقديمِ المستوى اللازم للوصول إلى السوق المُوَحَّدة لتمكينِ هذا النوع من التكامُلِ الاقتصادي الواسع النطاق مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي أثبت أنه قادرٌ على إحداثِ تحوّلاتٍ كبيرة في مجتمعات أوروبا الشرقية. ومع ردودِ الفعلِ العنيفةِ ضد الهجرة كموضوعٍ مُتكرِّر في السياسة الأوروبية منذُ ثمانينيات القرن العشرين، تراجعت المفوضية الأوروبية وكذلك الدول الأعضاء بشكلٍ مُكرَّرٍ عن الالتزامات الأوّلية بالسعي إلى تقديمِ دعمٍ أكبر وتكامُلٍ أعمق للدول الواقعة على طول المحيط الجنوبي للاتحاد الأوروبي. وقد تركَ هذا بروكسل محرومةً من الروافع المؤسّسية التي تُشكّلُ أهميةً بالغةً لنفوذها في أماكن أخرى.

حتى في حالةِ إسرائيل، التي تتمتّعُ شركاتها ومواطنوها بقدرةٍ أكبر على الوصول إلى الاتحاد الأوروبي مُقارنةً بأيِّ دولةٍ أُخرى في المنطقة، فإنَّ التردُّدَ في بروكسل في تعليق اتفاقية الشراكة لممارسة الضغط، أو بدلًا من ذلك تقديم خطوات أخرى نحو تكاملٍ أعمق كحافزٍ لتغيير سلوك إسرائيل، ترك الأوروبيين بلا نفوذٍ يُذكَر على التطورات في الشرق الأوسط. في مواجهةِ تدفُّقِ الاستثمارات عبر الشرق الأوسط من الصين ودول الخليج، فإنَّ النهجَ الأوروبي القائم على المعايير المؤسّسية التي وُضِعَت قبل أكثر من ثلاثين عامًا لن يكونَ كافيًا لمواجهة نفوذ المنافسين غير الديموقراطيين الذين لديهم تحفّظات أقل عندما يتعلقُ الأمرُ بالتأثير الاجتماعي لمشاركتهم السياسية والاقتصادية.

لكن في غيابِ الإرادةِ اللازمة لتقديم ذلك النوع الشامل من التكامل الاقتصادي والمجتمعي الذي يُشكّلُ محورًا أساسيًا في نهج الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الاستقرار وحلِّ النزاعات في أماكن أخرى على طول حدوده، فقد حَصَرَ الاتحاد الأوروبي نفسه في دورِ اللاعبِ الصغير في وقتٍ تتضاءل أيضًا قدرة الولايات المتحدة على كَبحِ جماح إسرائيل أو خصومها. ومع إحجام الصين أيضًا عن تحمّلِ المخاطر اللازمة لمُمارسة الضغوط الفعّالة على إسرائيل أو إيران، فقد أعطى غيابُ القيودِ الخارجية القوية المُتشدّدين على جانبَي الصراع مساحةً أكبر بكثير لملاحقةِ أشكالِ التصعيدِ التي كانت غير واردة، إن لم تكن غير مُتَصَوَّرة، من قِبَل معظم المُحلّلين قبل عام.

ومع انتشارِ الصراعِ بين إسرائيل وخصومها إلى الأراضي اللبنانية والسورية وحتى الإيرانية، فإنَّ حدودَ النفوذ الأوروبي والأميركي في الشرق الأوسط لم تكن أكثر وضوحًا من أيِّ وقت مضى. ومع ذلك، في حين أنَّ الدمارَ الذي خلّفهُ هذا الصراع يمتدُّ ويحدثُ بعيدًا من الولايات المتحدة، فإنَّ تأثيره محسوسٌ بالفعل بشكلٍ مباشر على طول حدود الاتحاد الأوروبي. إذا ظلَّ الأوروبيون غير راغبين في بناءِ نوعٍ جديدٍ من العلاقات مع الشرق الأوسط اللازم لخلق مسارٍ قابلٍ للاستمرار نحو السلام والازدهار الإقليمي، فلا ينبغي لهم أن يُفاجَؤوا عندما يجرّهم انهيارُ النظام القديم إلى المزيد من الفوضى والحرب.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى