خَرائطُ نتنياهو وصَمتُ العَواصِم

محمّد قوّاص*

يأتي الهجومُ الصاروخي الذي شنّته إيران ضدّ إسرائيل ليل الثلاثاء ليُفاقِم من خطورةِ الصراع في المنطقة ويرفعه إلى مستوياتٍ تزداد شمولًا. ووسطَ ترقُّبٍ لحجمِ الرَدِّ المُضادِ من الجانبِ الإسرائيلي، فإنَّ الوَضعَ آيلٌ إلى حساباتٍ جديدةٍ قد تُربكُ طموحاتَ إسرائيل في الترويج لـ”رسالةٍ” تُبشّرُ بها العالم تبريرًا وتفسيرًا وتدويرًا لحروبها الراهنة على جبهاتٍ عدّة.

قبل ذلك التدهور الذي خرجت به الساعات القليلة الماضية، حمل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في 27 أيلول (سبتمبر) الماضي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، خريطتيَن: الأولى، بياضٌ يُبشّرُ به بفتحِ ممرّاتِ عبورٍ استراتيجي بين آسيا وأوروبا، والثانية، سوادٌ يُنذرُ بشُؤمه سَدّ الوصل بين القارات.

ولئن يتحدّثُ الطموحُ الأوّل عن مَمرٍّ اقتصاديٍّ بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط، وقّعت دولٌ مذكّرةَ تفاهُمٍ بشأنه على هامش قمّة العشرين في أيلول (سبتمبر) 2023، فإنَّ التحذيرَ بعد ذلك يطالُ منطقةً يُسيطرُ عليها “هلال” إيران الشهير لإجهاضِ كلِّ ذلك.

يتبرّعُ هنا نتنياهو ليضع مواهب إسرائيل في خدمةِ عواصم وأمم من خلال حربه ضد قطاع غزّة منذ عام، وتلك التي باشرها ضد لبنان، بإيقاعٍ دموي مُكثّف منذ أسابيع. ولئن يتوسّل الرجل ترقية حساباته لتطال حسابات استراتيجية كبرى لدول كبرى، فإنَّ في حراك الجيش الإسرائيلي ما قد يشي بأنَّ رجل إسرائيل القوي لا ينهل الكلام من عدم.

يسهل استنتاج الإفراط في تنميق المُعادلات الديبلوماسية في المواقف الصادرة عن العواصم القريبة والبعيدة المَعنيّة مُباشرةً بالصراع الذي فجّره “طوفان الأقصى” منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. أظهرت جُلُّ العواصم استنكارًا للحدث وتضامُنًا مع إسرائيل، وقد يكون ذلك مفهومًا على الرُغم من الطابع الهستيري لهذا التأييد والدعم والتضامن. أظهرت العواصم الغربية جميعها بقيادة واشنطن، التصاقًا مع المصاب الإسرائيلي برّرَ ارتكاب إسرائيل للفظائع في قطاع غزة ومهّد له. لكن تدرّجَ العمليات العسكرية لاحقًا، يقودُ إلى ما بات مسلّمة بأنَّ إسرائيل تمارس ما هو متاح ومسموح ومدعوم ويخدمُ أجنداتٍ متعدّدة.

لم تكن حركة “حماس” تتمتّعُ بعلاقاتِ ودٍّ مع معظم بلدان العالم العربي. كانت جُزءًا من الانقسام العام بشأنِ مسؤولية الإسلام السياسي عن خراب “ربيع” العرب بعد العام 2011. وكانت جُزءًا من انقسامِ المنطقة بشأن برامج إيران وعقائدها وسلوكها المُزَعزِع للاستقرار في المنطقة وفلسفتها الميليشياوية في قيادة السياسة الخارجية. وفيما هرعَ النظامُ العربي الرسمي، من خلال “جامعته”، إلى استنكارِ الحربِ في غزّة ودَعمِ ضحاياها وإعادةِ المُطالبة بقيامِ دولةٍ فلسطينية، فإنَّ نتنياهو وصحبه كانوا يَقرَؤون في حربهم أنَّ المنطقة، بأجنداتِ بلدانها جميعًا، لن تعودَ إلى منطقِ الحرب ولن تعودَ عن مشروعها للسلام، ولم تكن مَعنيّةً بمشاريع “الجهاد” التي تجد من إيران مصدر مدد وتحفيز.

لم يكن “محور المقاومة” الذي تقوده طهران مشروعًا عربيًا في صياغته التاريخية وفي أنماطه الفصائلية إلّا جُزءًا من الأدوات الضاربة لإيران في المنطقة. عملت طهران عبر أذرعها، التي للمصادفة، وهي من مشارب نقيضة، اكتشفت فلسطين وضرورات التوق إلى تحريرها. باتت القدس وجهةً يُقسِم الحوثيون في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا أنها هدفهم ومقصدهم حتى لو من طريقِ مُدنٍ وسُبُلٍ لا يُمكِنُ أن تصلَ يومًا إليها. حتى الفلسطينيون انقسمَ جسدهم وتصدّعَ بُنيانهم بين قطاعٍ وضفّةٍ وبين مدرستَين ومَنهجَين لا سبيل لتقاطعهما. وإذا ما تشنّ إسرائيل حروبها ضد “المحور” فهذا شأنها معه وفي سياق حربها مع إيران الخارجة عن سياقات الدائرتين العربية والإسلامية.

تشنُّ إسرائيل حروبًا تجدُ لها في صمتِ العواصم قبولًا ومن علامات الرضى. شنّت هجماتٌ ضد الحوثيين في اليمن لم تجرؤ عليها دولٌ كبرى. أنشأت الولايات المتحدة في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2023 تحالفًا من دولٍ عدّة تحت مسمى “حارس الازدهار” لحماية الملاحة في البحر الأحمر. ومع ذلك لم تجد واشنطن إلّا لندن شريكًا لضرباتها العسكرية المحسوبة ضد مواقع جماعة الحوثي في اليمن، وإن حدثَ فله معايير مُقيّدة لا تعرفها حروب إسرائيل الراهنة.

وحين تقصُفُ إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان (أبريل) الماضي، وتُفَجّرُ مَنشأةَ تخصيبِ اليورانيوم في نطنز في العام 2021، وتقتل “أبو القنبلة النووية” محسن فخري زاده في العام 2020 وتسطو على أرشيف البرنامج النووي في العام 2018، فذلك من علاماتِ ضرباتٍ تصبُّ تمامًا في حسابات واشنطن وحلفائها الغربيين لمواجهة انتفاخ إيران وتورُّم برنامجها النووي وتمدد نفوذها على “طريق الهند-أوروبا” أو حتى في “طريق الحرير” العزيز على قلب الصين.

وسواءَ كان توقيتُ حرب إسرائيل ضد “حزب الله” استنتاجًا لاتِّساقٍ إيراني، تتدافع مظاهره بذهولٍ منذ انتخابِ مسعود پزشکیان رئيسًا ورواجِ الحديثِ عن الانفتاح على العالم الغربي، أم هو مقدّمة مُحتملة لصدامٍ آتٍ مع إيران على النحو الذي قد تستشرفه ضربات إيران الصاروخية ليل الثلاثاء، فإنَّ نتنياهو يتطوَّعُ في خدماته لاستدراجِ الدَعمِ وربما العروض والانخراط داخل خطوط الخرائط الجديدة والأرجح استباقها.

ولا يتعلّقُ السياقُ بغربٍ لصالحِ شرقٍ بل بالشرقِ والغربِ معًا. وقد يجوزُ هنا التساؤل بشأنِ انخفاضِ لهجةِ بكين التي سبقت مستويات علاقاتها مع إسرائيل ما قيل إنه اتفاقٌ استراتيجي مع إيران وقد يجوز هنا، في التعليق على هذه “اللحظة” الإسرائيلية التي تسود المنطقة منذ “طوفان الأقصى” التساؤل عن ارتباكِ ما تستنكره موسكو وتستهجنه لياقةً منذ حرب غزّة وصولًا إلى حرب لبنان، كما التساؤل عن مدى منافع نيران إسرائيل ضد شبكة مصالح إيران في سوريا في تدعيم حساب الأرباح الروسي في هذا البلد.

سيُربكُ الردُّ الإيراني والردُّ الإسرائيلي المُضاد كثيرًا من القراءات بشأن “مهمة” إسرائيل داخل ورشةٍ مُعقّدة لرَسمِ خطوطِ خرائط العالم الجديدة. ولئن يعرض نتنياهو خرائطه المُقترحة للعالم أجمع، فإنَّ في المُعاندة الإيرانية، في شقّها الودود الذي يعبّر عنه پزشکیان وصحبه، أو ذلك الذي أرسلته الصواريخ الناطقة باسم الحرس ومرشده، ما يقترح تموضعًا إيرانيًا داخل تلك الخرائط لا خارجها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى