تراثُنا لا ينحصر بمنقوشة الزعتر
هنري زغيب*
في نشرة أَخبار تلفزيونية قبل أيام، وكنتُ أُتابع “هولاكيَّات” الوحش التيوقراطي تتفجَّر موتًا كثيرًا على أَرضنا الطيبة وفي شعبنا المنكوب، انتهَت النشرة بتقرير من كاليفورنيا عن “مهرجان ثقافي لبناني” تحييه الجالية اللبنانية في إِحدى المدن هناك، بحضور عدد واسع من مواطنينا شبَّانًا وشيبًا وأَطفالًا ويافعاتٍ وشبابًا في زوغة لبنانية أَليفة.
عند تفصيل التقرير وجدتُ أَن هذا المهرجان “الثقافي” ليس سوى هرج ومرج حول صاج، وكرنفال حول منقوشة الزعتر ورغيف اللحم بعجين وباربكيو اللحم والفراريج والشاورما، وسائر ما يغذِّي البطن ولا يَصعد مطلقًا إِلى الدماغ. وزاد من توصيف المشهد قولُ منظِّم المهرجان إِنَّ في ولاية كاليفورنيا نحو 80 أَلف لبناني، وإِنه يبذل مع زملائه “سعيًا دؤْوبًا” لنقل تراثنا إِلى المغتربين، وخصوصًا إِلى أَبناء الجيل الجديد ممن ولدوا هناك وينشَأُون هناك، كي يعرفوا تراث وطنهم العريق.
ماذا؟ “تراث وطنهم العريق”؟ لا يا شباب. لا يا إِخوان. لأْ. مش صحيح. أَبدًا مش صحيح. هذا الذي تتبجَّحون بإِنجازه في اليوم الوطني اللبناني لا يختصر تراثَنا العريق بل يُقزِّمُهُ إِلى مستوى منقوشة زعتر ورغيف لحم بعجين وجاط تبولة ورقصة دبكة.
تراث لبنان العريق هو نقْلُكم إِلى الجيل الجديد تراثَ لبنان الفكري والفني والحضاري. هذا هو تراثنا الحقيقي. لا يهمُّنا أَن يلتهم أَبناء الجيل الجديد هناك شرائح اللحم وعرائس اللبنة بالخيار والبندورة، فيما هُم لا يعرفون مبدعين من لبنان وحضارة لبنان وتاريخ لبنان وما يجعلهم يكبُرُون بوطنهم ويعتزُّون بانتمائهم إِليه ويودُّون زيارة أَرضه الأُم ولُقْيا أَهاليهم فيها.
تعلُّقُهم بلبنان لا يكون فقط بإِلباسهم قميصًا عليه أَرزة لبنان أَو علَم لبنان، ولا بإِسماعهم أَغاني الهُوَّارة وموجةَ أُغنيات راقوصة تافهة. كلُّ هذا لا يعرِّفهم بلبنان… ما يجعلهم يتعلَّقون بلبنان هو أَن يكتشفوا الإِرث اللبناني الخالد عبر العصور، بناه ركيزةً ركيزةً لبنانيُّون كبارٌ في كل حقل علمي ومعرفيّ. هكذا يفهم أَولادنا هناك أَنهم ليسوا من وطن يُختَصَر بعشرة آلاف كلم مربع ولا بكمشة ملايين نسمة، بل هو وطن شعَّ على العالم بجبران وحسن كامل الصباح وشارل مالك ومايكل دبغي وجورج شحادة وأَمين معلوف وعاصي ومنصور الرحباني وفيروز وسعيد عقل ومسرح كركلَّا وفيليب سالم ومي الريحاني وكوكبةٍ مباركة من العلماء والمفكرين والمبدعين على أَرض لبنان وفي العالم.
هكذا ودِدتُ ذاك المهرجان المزعوم “ثقافيًّا”، بعد الفَزّ والنَطّ وأَكْل الشاورما واللحم بعجين، لو انتهى بلقاءٍ مع مثقف لبناني هناك، متنوِّرٍ عارفٍ بتراثنا، يَشرحُ للجمهور في آخر ذاك “النهار الوطني” حقيقةَ لبنان الوطن ومستواه الفكري والعلميّ والأكاديمي والجامعيّ، مفصولًا عما يجري حاليًّا في لبنان السُلطة وسياسييها الفاسدين ودولتها المنهارة، فيقول لهم إِن المرحلة الحالية عابرةٌ مهما طالت وسيعود لبنان إِلى لبنان، وإِنّ لبنان الوطن، قبل هذه المرحلة الصعبة وخلالها وبعدها، باقٍ على الزمان لأَن الحضارة سمةُ لبنان الوطن بأَعلامه المبدعين وعلاماته الخالدة ومعالمه التاريخية والأَثرية التي كانت وستبقى هي عنوانَ لبنان في العالم.
هكذا، ذاك المهرجان في كاليفونيا وفي كل جالية من مَهَاجرنا اللبنانية، يكون مهرجانًا ثقافيًّا حقيقيًا يقطف منه أَبناءُ جيلنا الجديد هناكَ ما يجعلُهم يَعُون أَن لبنانَ وطنٌ لا يقاس بجغرافياه ولا بديموغرافياه ولا بمنقوشة الزعتر، بل يُقاسُ بإِرثه الغني الفريد، الساطع من أَول التاريخ على قمة الصفحات الأُولى من كُتُب التاريخ.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib