الحَقيقَةُ لا يَقولُها إلّا مَن رَغِبَ في الرَحيل!
الدكتور بيار الخوري*
مُنذُ اندلاعِ الحربِ الأهلية اللبنانية في العام 1975 خَسِرَت الطوائفُ اللبنانية بالتتابُعِ أيقوناتَها الكُبرى من طريقِ الاغتيال. كمالُ جنبلاط أوّلًا، أحدُ أهمِّ شخصيّاتِ عدم الانحياز والاشتراكية الدولية الذي حاولَ الدفاعُ عن النظامِ عبرَ إصلاحه ولو بالحرب؛ بشير الجميل الذي حَوَّلَ شعارًا من خمسةِ أرقامٍ إلى مشروعِ وطنٍ لا ينقصهُ سوى الفَصلِ المُستَحيلِ بين أزمتي لبنان والشرق الاوسط؛ رفيق الحريري الذي حاولَ أن يستلحقَ لبنان في قطار الشرق الاوسط الجديد الذي أوقفه اغتيال إسحق رابين؛ وأخيرًا حسن نصرالله الذي تجرّأ على الافتراضِ أنَّ إسرائيل هي أوهَن من بيتِ العنكبوت.
رجالٌ من بلدٍ صغيرٍ جدًا تنطّحوا لتحدّي قوى وأنظمة راسخة جدًا، صِيتُهم جابَ العالم كما مُريدوهم. لكن… تَرفُضُ الطوائفُ اللبنانية مُقارنةَ شهدائها بشهداءِ الطوائف الأخرى، لأنَّ الشهادةَ تحمُلُ معانٍ رمزيةٍ عميقةٍ تتعلَّقُ بالهويةِ، والتاريخِ، والذاكرةِ الجماعية لكلِّ طائفة. يُعتَبَرُ الشهيدُ بالنسبةِ إلى كلِّ طائفةٍ رمزًا للنضالِ ضدّ الظلمِ الذي تراه هي جُزءًا من وجودها التاريخي. المقارنةُ يُمكنُ أن تُفسَّرَ على أنها محاولةٌ للتقليل من شأنِ رمزيةِ أو تضحياتِ الطائفةِ المَعنية، وبالتالي، تُثيرُ حساسياتٍ تَرتبطُ بالصراعِ على سرديةِ “الحقِّ” و”الظُلمِ” عبر التاريخ اللبناني.
هُناكَ نوعٌ منَ “التوازُنِ السلبي” القائم على الألَمِ الجماعي والمآسي المُشترَكة. قد يكونُ هناكَ نوعٌ من الإدراكِ الضمني أنَّ الجميعَ عانى وخسرَ قادةً مؤثّرين كبارًا، ولكن، هذا النوعُ من التوازُنِ لا يُمكِنُ أن يكونَ مُستدامًا أو بنَّاءً في المجتمعات. فبدلًا من إرساِء توازُنٍ فعليٍّ قائمٍ على العدالة والمصالحة، يكونُ التوازُنُ المُعتَمِد على الموتِ والفاجعة عبارةً عن دوّامةٍ من الألمِ قد تستمرُّ في تأجيجِ الأحقادِ بدلًا من تجاوزها.
ولكن، ألّا يُشكِّلُ هذا التوازنُ قاعدةً لإعادةِ التفكيرِ بأنَّ اللبنانيين ضحايا، طائفةٌ وراء أُخرى، لصراعٍ ليسوا قادرين على حسمه؟
يجبُ النظرُ إلى الأمرِ من هذا المنظور، حيث يَعكُسُ تسلسلُ الأحداثِ والتضحياتِ أنَّ اللبنانيين عالقون في صراعٍ تتداخلُ فيه العواملُ المحلّية والإقليمية والدولية، والتي غالبًا ما تعوق قدرتهم على الوصولِ إلى حلولٍ وطنيةٍ شاملة. وبالتالي، فإنَّ اللبنانيين يُمكِنُ أن يعوا ويُدركوا بأنهم ضحايا لأنظمةٍ إقليميةٍ ودولية أكبر من قدرتهم على التعامل معها بشكلٍ فرديٍّ أو جماعي.
لقد استشهدَ هؤلاء لأنّهم رفضوا القبولَ بالأمرِ الواقع وسعوا إلى تغييره في نظامٍ إقليميٍّ ودوليٍّ يخضعُ له لبنان ومواقفه وزعاماته؟
جميعُ القادة الذين استشهدوا في لبنان سعوا إلى تغييرِ الأمر الواقع، سواء كان ذلك من خلال مُحاربةِ الاحتلال، أو مُقاومةِ الذوبانِ في مُحيطٍ اوسع، أو محاولةِ بناءِ لبنانٍ جديدٍ أكثرَ عدالةً ومساواة، أو لبنان الذي يستطيعُ اللحاقَ بركبِ المنطقة. إلّا أنَّ الظروفَ الإقليمية والدولية التي يخضعُ لها لبنان دائمًا ما تلعبُ دورًا حاسمًا في تحديدِ مصيرِ هؤلاء القادة. الطموحاتُ الداخلية غالبًا ما تتصادَمُ مع مصالح القوى الإقليمية والدولية التي تؤثّرُ في مسارِ الأحداث في لبنان.
كلُّ الطوائف الأربع (الدرزية، المسيحية، السنّية، الشيعية) قدّمت أغلى ما لديها من قادةٍ بحسبِ اعتقادها الذي لا يتزعزع، دخلت هذه الأسماءُ الأربعة سجلَّ الذاكرةِ الجماعية قبل سجلِّ التاريخ الذي سيحكُم بعد مماتنا وربما بوقت طويل.
عَبَّرَ البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي في عظةِ الأحد الفائت، (29 أيلول/ سبتمبر)، عن فكرةِ أنَّ الشهادةَ في لبنان ليست حكرًا على طائفة دون أخرى، وإنّما هي تضحيةٌ مُشتَرَكة من قِبَلِ أفرادٍ من مُختلفِ الطوائف الذين أحبّوا الوطن، حتى لو كانت رؤاهم في إدارته تختلف. لقد اصابَ البطريرك تمامًا.
هؤلاء قالوا الحقيقة كما يرونها، لأنَّ الحقيقةَ لا يقولها إلّا مَن يرغبُ في الرحيل، كما قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. رحمَ الله كلَّ حالمٍ بالتغيير.
- الدكتور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الاقتصاد السياسي. يُمكن التواصل معه عبر بريده الالكتروني: info@pierrekhoury.com