إنهيارُ سدِّ السودان: كارثةٌ تَجمَعُ بينَ تَغَيُّرِ المناخِ والصِراعات
تكشف الفيضانات الأخيرة وانهيار سد أربعات في السودان في آب (أغسطس) الفائت كيف تتفاقم تداعيات الحرب الجارية بسبب آثار تغيّر المناخ.
عبد الفتاح حامد علي*
يُبَيِّنُ الانهيارُ المُميت لسدٍّ في السودان بعد هطولِ أمطار غزيرة خطورةَ الوضع الذي تعيشه البلاد نتيجة التقاطع بين صراعٍ مُدمّرٍ مع أزمة المناخ. انفجرَ سدّ أربعات في 25 آب (أغسطس) الفائت، مُدَمِّرًا 20 قرية ومُلحِقًا أضرارًا جسيمة بعشرات القرى الأخرى. وتسبّبت هذه الحادثة أيضًا بنزوح الآلاف من الناس وقطع طرق الإمداد الحيوية. وتشير الفيضانات، وهي كارثة إنسانية جديدة تُضافُ إلى الكارثة التي تواجه السودان بعد 500 يوم من الحرب، إلى أنّ تغيُّرَ المناخ ليس مجرّدَ مسألةٍ بيئية، بل هو عاملٌ مُضاعفٌ في الصراعات والأزمات الإنسانية.
تاريخُ الفيضانات في السودان مُوَثّقٌ جيّدًا حيث تجلب سنويًا الدمار للمجتمعات الضعيفة في جميع أنحاء البلاد. بيدَ أنّ شدّة الفيضانات الأخيرة هذه قد حوّلت الظواهر الموسمية إلى تهديداتٍ وجودية لآلاف الأشخاص. أشارت وزارة الصحّة السودانية إلى أنّ 11 ولاية من أصل 18 ولاية في البلاد تأثّرت بفيضانات هذا العام التي دمّرت 18,665 منزلًا بالكامل، وألحقت الضرر بـنحو 14,947 منزلًا آخر. وقد بلغ عدد القتلى 173 شخصًا على الأقل حتى وقت كتابة هذا التقرير، وأُصيبَ 505 آخرين، فيما نزحت آلاف الأُسَر التي تجدُ صعوبةً كبرى في إعادة الإعمار. كما أسفرت الأمطار الغزيرة التي تسبّبت بانهيارِ سدّ أربعات عن مقتل ما لا يقلّ عن 60 شخصًا، وتشريد آلاف آخرين، وألحقت الأضرار بالبنية التحتية الحيوية، لتزيد من تعقيد جهود الإنقاذ وتعزل المناطق المُتضرّرة.
فضلًا عن ذلك، تُعاني مدينة بورتسودان، الميناء الرئيس في البلاد وعاصمتها الفعلية، أزمةَ مياه حادّة بعد أن كانت تعتمد على سدّ أربعات لتأمين إمداداتها من المياه، ما فاقَمَ معاناة السكّان الذين أثقلتهم الحرب. وقد استُنفد خزّان السدّ –المصدر الرئيس للمياه في المدينة– بالكامل، تاركًا الآلاف من دون إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة.
تفاقم الأزمات القائمة
خَلّفت الحربُ المستمرّة في السودان منذ عامٍ ونصف العام معاناةً لا يمكن تصوّرها في بلدٍ فقيرٍ بالفعل. ووفقًا للأمم المتّحدة، يواجه نحو 25,6 مليون سوداني الجوع الحادّ، فيما أكثر من 755 ألف شخص على شفا المجاعة. لقد تأكّدت المجاعة في مُخيّم زمزم للنازحين في شمال دارفور، والوضع حرج في المناطق المتضرّرة من الصراع مثل الجزيرة ودارفور وكردفان، فضلًا عن العاصمة الخرطوم نفسها.
وقد فاقمت الفيضانات والأمراض المُعاناة الناجمة عن القتال، وخصوصًا في صفوف النساء والفتيات. وقد بيّن تقريرٌ صادرٌ عن منظّمة أطبّاء بلا حدود في تموز (يوليو) الماضي الخسائر الكارثية التي تكبّدها المدنيون بسبب الصراع، إذ تعرّضت المستشفيات للقصف، وقُصفت الأسواق، وهُدِمَت المنازل. وفي مستشفى واحد تدعمه منظّمة أطباء بلا حدود في أم درمان، عُولجَ أكثر من 6700 مريض من إصابات مرتبطة بالصراع في أقل من تسعة أشهر.
وفي الولايات التي يغيب عنها حكم الدولة، لا تتسبّب الصدمات البيئية مثل الفيضانات والجفاف وموجات الحرّ الشديد، بأضرار فورية فحسب، بل تُضَخّم الأزمات القائمة. لقد فاقم الفيضان في السودان تأثيرات الصراع، الذي شلّ بدوره قدرة البلاد على الاستجابة للفيضانات، تمامًا كما أعاقت سنوات الحرب الأهلية والاضطرابات في ليبيا الجهود لتجنّب الفيضانات الناجمة عن انهيار سدّين في درنة قبل عام والاستجابة لها.
لطالما اعتُبِرَت الفيضانات الموسمية من الظواهر السنوية المميتة، حتى قبل نشوب الحرب الحالية بين القوّات المسلّحة السودانية وقوّات الدعم السريع. بَيدَ أنّ الصراع الحالي قد دمّر البنية التحتية وحوّل الفيضانات من محنةٍ موسمية إلى كارثةٍ إنسانية مع ما رافقه من أحوال طقس متطرّفة بسبب غيّر المناخ.
يشير انهيار سدّ أربعات أيضًا إلى الضعف المُزمن في البنية التحتية في السودان وعجزها عن مواجهة فيضانات من هذا المستوى. لقد تُرِكت الكثير من المناطق عرضةً للخطر نتيجةَ الصيانة غير المُنتظمة، وأنظمة الصرف غير الملائمة، والافتقار إلى دفاعات فعّالة ضد الفيضانات. ولسنواتٍ قبل الحرب، كانت المياه تغمرُ أحياءً بأكملها، ولم تعد الطرق سالكة، وتعطّلت القدرة على الاستجابة الطارئة بسبب حجم الدمار. وتفاقم هذا الضعف بسبب انتشار الفقر ونقص الموارد للتعافي، ما ترك المجتمعات المتضرّرة عالقة في حلقة من الدمار وإعادة الإعمار.
الجفاف والفيضانات والاضطرابات
تُعتَبَرُ كارثة الفيضانات في السودان مثالًا حيًّا على تحوّلِ تغيُّر المناخ إلى “عامل مضاعف للتهديد” وخصوصًا في الدول الهشّة. أسوة بفيضان درنة في 11 و12 أيلول (سبتمبر) 2023، والزلزال الذي ضرب مناطق نائية وفقيرة من المغرب قبله بأيامٍ قليلة، وقع فيضان السودان نتيجة التغيّر المناخي السريع الذي يسبّب ظواهر الطقس المتطرّفة.
إنّ طبيعة السودان الجغرافية ومناخه يجعلانه هشّاً أمام تداعيات تغيّر المناخ. تُصنّف نحو 72 في المئة من أراضي السودان صحراوية أو شبه صحراوية، وتكافح البلاد بالفعل من أجل الحفاظ على قطاعها الزراعي وأمنها الغذائي. ويفاقم تغيّر المناخ الوضع من خلال زيادة وتيرة وشدّة الجفاف والفيضانات وغيرها من ظواهر الطقس المتطرّفة، فتتدهور الأراضي الصالحة للزراعة، وتنخفض غلّة المحاصيل أو تدمّر بالكامل، ويترسّخ انعدام الأمن الغذائي. ويغذّي ذلك بدوره الاضطرابات الاجتماعية والسياسية على نطاق أوسع مع تزايد المنافسة على الموارد النادرة، ويدقّ الأسافين بين المجتمعات ويؤجّج التوتّرات القائمة.
فضلًا عن ذلك، يُفاقم تغيُّر المناخ التحدّيات الاقتصادية التي تواجه السودان. يرزح اقتصاد البلاد، الذي أضعفته عقود من الصراع وفقدان عائدات النفط بعد انفصال جنوب السودان في العام 2011، تحت ضغوطٍ أكبر بسبب الاضطرابات الناجمة عن المناخ. ويؤدّي انخفاض الإنتاجية الزراعية إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية ويساهم في التضخّم، في حين تُعيق ندرة المياه سبل العيش في المدن والأرياف. وتُصَعّب الضغوط الاقتصادية الناتجة على الحكومة والمؤسسات المحلّية أن تحافظ على الاستقرار، ما يخلق حلقة مُفرغة من التدهور البيئي والانحدار الاقتصادي تؤجّج الصراع. وهذا بدوره يعيق الجهود الفعّالة للتكيّف مع تغيّر المناخ والتخفيف من آثاره.
حلول متكاملة
كانت الفيضانات في السودان بمثابة تذكير مأسوي بدور تغيّر المناخ في تعميق الأزمات القائمة في المناطق المُتضرّرة من الصراعات. وعليه، من المهم معالجة التفاعلات بين تغيّر المناخ والصراعات لمنع الكوارث الإنسانية في المستقبل. ويجب على المجتمع الدولي أن يتحرّك بسرعة لتأمين الإغاثة الفورية للمتضرّرين من الفيضانات، ودعم الحلول الطويلة الأجل التي تعالج الأسباب الجذرية لنقاط الضعف في البلاد.
تتطلّبُ معالجة محنة السودان نهجًا مُنسّقًا وشاملًا يُركّز في آنٍ على الاحتياجات الإنسانية الفورية والعوامل الأساسية المُحرّكة للصراع والضعف البيئي في البلاد. أكثر من 150 وكالة إنسانية في السودان تتسابَقُ مع الزمن لمنع انتشار المجاعة على نطاقٍ أوسع. وفي حين تلقّى أكثر من 8 ملايين شخص شكلًا من أشكال المساعدة من أصل 14,7 مليون شخص مُستَهدَفين ببرامج المساعدات، يبقى الكثير للقيام به. ولم تحصل خطة الاستجابة الإنسانية للأمم المتّحدة لعام 2024، التي تسعى إلى جمع 2,7 ملياري دولار، إلّا على 41 في المئة من التمويل حتى وقت كتابة هذه المقالة، ما يؤكّد على الحاجة الملحّة إلى موارد إضافية.
في الوقت نفسه، لتخفيف تأثير الفيضانات في المستقبل، لا بدّ من بناء دفاعات ضدّ الفيضانات لإعادة توجيه المياه والحدّ من المخاطر في المناطق المعرّضة للخطر. ومن شأن تثقيف المجتمعات بشأن السلامة في أوقات الفيضانات، وتشجيع الانتقال من المناطق المُعرّضة للخطر، وتحسين البنية التحتية أن يحدّ بشكل كبير من الخسائر والأضرار التي تلحق بالممتلكات. وفي الأمد القريب، تبرز حاجة ملحّة لإيصال الخيام والأغذية والأدوية المنقذة للحياة إلى المتضرّرين، ومن ضمنها مضادّات سموم العقارب.
أمّنت إعادة فتح معبر أدري الحدودي مع تشاد في 15 آب (أغسطس) طريقًا حيويًا لإيصال الإمدادات الأساسية إلى غرب السودان، وإلى دارفور خصوصًا، ووفّر شريان حياة لمن هم بأمسّ الحاجة. ومع ذلك، أدّت الأمطار والفيضانات المستمرّة إلى إتلاف البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك ثلاثة جسور رئيسة في دارفور، وحدّ من حركة المساعدات داخل المنطقة. وعلى الرُغم من هذه التحدّيات، تواصل شاحنات المساعدات عبور الحدود، حاملة الإمدادات الأساسية لنحو 195 ألف شخص بحاجة ماسة لها، مع الاستعداد لإرسال المزيد من القوافل.
في الوقت نفسه، يجب أن تتضمّن الجهود الرامية إلى إنهاء الصراع في السودان إستراتيجيات للتكيّف والقدرة على الصمود في مواجهة تغيّر المناخ. ولا بدّ من أن تتضمّن مبادرات بناء السلام أحكامًا لإعادة بناء البنية التحتية للبلاد وتعزيزها وضمان قدرتها على تحمّل الفيضانات في المستقبل وغيرها من التحدّيات المناخية. فمن دون التوصّل إلى حلول متكاملة، ستتفاقم دورة الفيضانات والنزوح والمعاناة في السودان أكثر فأكثر.
- عبد الفتاح حامد علي هو زميل زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. تخرّج أخيرًا من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، حاملًا شهادة الماجستير في السياسات العامة. تشتمل مواضيع بحثه على التنمية الاقتصادية، والسياسات العامة، والتحوّلات في الطاقة، والاستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.